تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


عــزازيــل.. غــوايــة التـــاريــخ المتـــواري

كتب
الأربعاء 24-6-2009م
أحمد علي هلال

لعل من أكثر مبررات ذهاب الرواية للتاريخ، سواء البعيد أم القريب- الحاضر-اتكاء على حلقات غائبة أو مفقودة، هوالإيحاء بتلك الفجوات المحتملة التي تكتنف مسار وسيرورة تاريخ بعينه،

لكننا هنا لانذهب لرواية تاريخية بالمعنى الدقيق للكلمة، وإن تقنعت بالتاريخ وعلاماته وتموجاته، بل وأمكنته وأزمنته في آن معاً، وفق مبدأ المصادفة الضرورة، ومن ثم الضرورة الموضوعية لقول روائي بكلياته وأجزائه، سوف يثير أسئلتنا الأخرى في مقابل أسئلة الرواية الباذخة في استثنائيتها واختلافها المقصود، ولاسيما في معاينة أزمان متداخلة زمن الكتابة وزمن الحكاية ومابينهما من متخيل مراوغ، قد يشي بتفادي حدة التأثير المتبادل بين الوعي والواقع، أو تصعيدها، لكسر جاهزية الوعي الروائي التقليدي، ليقارب أكثر الأسئلة خطورة وإثارة وحساسية، في تموضعها الفكري والأخلاقي واللاهوتي والفلسفي على الأقل.‏

وبهذا السياق، فإن (عزازيل) يوسف زيدان تنتظم كل مقولاتها في نسيج مغامرة سردية مشغولة بالقدر المحسوب على مستوى الشكل والمضمون- التقنيات- لتنتج معادلها في القول بتاريخ ينفتح على «سيرة عجيبة ووقائع قلقة، وتقلبات مضطربة»، ذلك أن مكونها البنيوي سينزاح إلى إيهام القارىء بسيرة الراهب المصري هيبا وماجرى فيها وكيف دوّنها، تحضر يومياته الأربعون ومدوناته في رقائق ( فصول)، اختيرت لها عناوين دالة، لتفصح عن اعترافاته قبل أن يرحل عن الدنيا.‏

هنا، لانقف عند ميثاق السيرة الملتبسة والوجودية لهيبا، فحسب أوقواعد اللعبة السردية، من القول بترجمة اللفائف التي وجدت بالخرائب الأثرية الواقعة إلى جهة الشمال الغربي من مدينة حلب السورية- بحسب (المترجم) والتي وجدت محفوظة بصندوق خشبي حوى مفاصل سيرة عجيبة.‏

الحال، إننا بالانتباه إلى تخليق أزمنة تحيل على مساءلة حقائق ومسلمات داخل لغة رشيقة متماسكة التراكيب، متدفقة، سوف نحظى بحوامل الأسئلة في رواية صادمة تنهض على مايمكن للراهب هيبا أن يفضي به وهو يدون سيرته ويحفر ممراته لتتشظى بنية الصمت من حوله، كان روسو في اعترافاته يؤكد أن لاشيء يقود الحقيقة إلا الحرية التي توصل إليها، والفارق هنا في (عزازيل) شيطان الكتابة والتدوين ليتحول التأريخ المتخيل لحكاية تمتد وتتواتر، ليذوب التاريخ داخل رواية تسائل الموروث الاجتماعي والفكري وهز مرويته الساكنة بفضاءاتها الحضارية والثقافية والذاكروية.‏

(عزازيل) تتباين حوله الآراء والأقاويل، بعضها مذكور في الكتب القديمة، وبعضها منقول عن ديانات الشرق، ويقال إن مولده في وهم الناس، كان في زمن سومر القديمة وروى القدماء أنه خلق الطاووس، وقد ورد في نقش قديم أنهم عيروا (عزازيل) بأنه لايفعل سوى القبائح ولا يدعو إلا إليها فأراد أن يثبت لهم قدرته على فعل الجمال فخلق هذا الطائر، وعزازيل الجانب الخفي من هيبا في رحلته، سوف يملي عليه مايدونه قبل موتهما معاً، وهكذا تتماهى الشخصيتان، وهما شخصية واحدة، لكن أطيافها الأخرى، سوف تقودنا إلى أزمنة وثنية تصارع سواها وتتعدد شخصية هيبا من خطواتها الأولى كراهب، وطبيب، وشاعر ومغوي بالحاح عزازيل الذي يأتيه منه وفيه وحججه القوية، وشاهد «على أن أرواح الناس تخطىء الطريق في الأزمنة القديمة، حين يظنون أن العقل كافٍ لمعرفة الحقيقة من دون خلاص يأتيهم من السماء».‏

وكيف يمكن للعقل الإنساني أن يصل بالفهم إلى معرفة جواهر الأشياء؟!.‏

وهيبا أمام أقداره: «فقده للنبوغ في الطب، الأمل في إدراك (الديانة)، الغرام بأوكتافيا، الولع بهيباتيا، فقدان مرتا، الاطمئنان بالغفلة، الإيمان بالخرافات» يستكمل مدوناته- كتابة الرقوق الحادية والثلاثين، وبتواتر ثنائيات الخير والشر، الخطيئة والخلاص، القلق والإيمان الفناء، الخلود، لكنها في مستواها الدلالي، تقارب محاكاة الأوهام وخطوطها المتكسرة في بداياتها ونهاياتها، فالبداية والنهاية خطان سرديان، يفصحان عن حكاية هيبا الكبرى وحكاياته الصغرى، بدءاً من ذكرياته في أمكنته، وسجالاته اللاهوتية والفلسفية العميقة، التي تبدأ باعترافاته وطقوسها التطهرية، ثمة قدر من المعرفة بكل مستوياتها وإشاراتها، فهي دالة الكتابة أو فعل الحياة: اكتب ياهيبا فمن يكتب لن يموت أبداً، وهي دالة المحو الرق الأخير، لتوسيع مفاهيم الثقافة والذاكرة، والطاردة لخرافة التجسد، فعزازيل لاوجود مستقل له، كما الجاذبة للإدراك بالقلب أو بالحدس، بعيداً عن إغواء الأقوال وفراغاتها، تتكثف مضمرات الرواية حول أشد الأسئلة ضراوة، خلق الإنسان وديانته، وإدانته وضلاله، والعدل والمعاناة والخطايا التي لم تنمح، والخوف الموروث والأوهام القديمة.‏

يستدعي يوسف زيدان بطله من تاريخ متخيل ليكتب في (رقوقه) كتابة أشبه بالمنعطف، حيث ينفتح الوعي الفردي، والجمعي في مواجهة سطوة الماضي والتاريخ، والإحالة لحاضر، فالمكون البنيوي في الرواية هوالسؤال بالقدر الذي يزيحه في مساحات السائد، هو ـ إذن فعل مكاشفة بالمعنى الأنطولوجي، لامجرد وقوف على «أدب يوميات» أو مطاردة لغواية الاعترافات، مكاشفة تتيح للفرد أن يروي ذاته ومجتمعه بكيفية أو طريقة، بطولتها الإضافية للذاكرة كمعادل فني، وهي تنبني على قول روائي كثيف يتكىء على الماضي ليتوغل في الحاضر، ويستدعي حكاية امتيازها الطليق، هو نفي عزازيل للداخل البشري- الإنساني دون الرهان على تجسده، تلك هي البداية في قوس يرمي كل سهامه في مدى مفتوح، لاتغادره رؤيا قلقة مشغولة بالتجاوز، وبحراك ذات إبداعية إلى مدونتها- وسيطها اللغوي- لتكتب فيها رغبتها الواعية بالتأريخ، قرعاً على بوابة تحاكي نبض العالم، كردة فعل على عالم شيطاني، هل هو المعنى الذي أراده توماس دي كنسي في مقالته عام 1823 (حول قرع البوابة في مكبث)؟! أي الطبيعة الإنسانية في تحولها لنقيضها ، وقد عبر شكسبير عن ذلك بكل براعة ممكنة.. ليكون السؤال مابعد عزازيل؟!.‏

الكتاب: عزازيل - الكاتب: يوسف زيدان - الناشر: دار الشروق الأولى-القاهرة 2008‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية