أخذت تلك التطورات في البداية منحى اقتصادياً يتعلق بآليات تسويق وتوزيع الكتاب ثم ما لبثت أن عبرت عن حقيقة أنها لم تكن مجرد إجراءات وتطورات في تقنيات واقتصاديات التوزيع، بل أنها في العمق تحولاً ثقافياً لا يخلو من عناصر تتعلق بالواقع السياسي والاجتماعي في الدول ما بعد الصناعية. ويرى العديد من المتابعين والمختصين أن سوق الكتاب في أوروبا وأمريكا يعاني حالياً من سيطرة احتكارات كبرى على عمليات النشر والتوزيع، ما أدى إلى نشوء قوى اقتصادية شمولية تسيطر بشكل مباشر على جانب هام من عملية الانتاج الثقافي وتتحكم بتصنيع الذائقة العامة في القراءة بطرق غاية في التعقيد والكفاءة. ويرفض هؤلاء فكرة أن الموضوع محض اقتصادي دون أي مشاريع مسبقة تتعلق برؤى ثقافية أو سياسية تسعى رؤوس الأموال إلى فرضها على المجتمعات، ويرون أن التحول النوعي الذي طرأ على صناعة النشر والتوزيع قد أدى إلى تغيرات ملموسة في علاقة القارئ بالكتاب.
أول تلك التطورات التي فرضتها الاحتكارات الكبرى في عالم الكتب هو فصل عملية التسويق عن بيئتها الاجتماعية. حدث ذلك بعد أن سيطرت مؤسسات تسويق الكتب على شبكة الإنترنت على معظم مبيعات الكتب في دول أوروبا وأمريكا، ما أدى إلى منافسة غير متكافئة بينها وبين محلات الكتب التقليدية المحلية التي بدأت تعاني من صعوبات كبيرة، وأخذت تتلاشى كمؤسسات صغيرة شكلت العمود الفقري لثقافة القراءة عبر قرون عديدة. إن محلات بيع الكتب التقليدية شكلت على مدى حقبة زمنية طويلة فضاء خاصاً للتبادل الثقافي ومكوناً من المخيلة الثقافية للمجتمع، وبالإضافة إلى ذلك فإنها كانت ولا تزال إلى حد بعيد مكاناً رمزياً يعبر عن وجود الطبقة الوسطى. وفي هذا السياق يمكن النظر إلى فعل تسوق الكتب على أنه عادة اجتماعية/ ثقافية لا تخلو من قصدية في التعبير عن الذات والهوية والذائقة الفردية. ويمكن لمن يراجع تاريخ القراءة في أوروبا أن يلاحظ بسهولة أن العلاقة مع الكتاب وخصوصاً من ناحية القدرة المعرفية والاقتصادية على اختياره واقتنائه شكلت أحد التجليات الأكثر وضوحاً لثقافة الحرية الفردية في أوروبا لا سيما في النصف الثاني من القرن الماضي.
بدأ هذا الموضوع يثير مؤخراً جدلاً واسعاً في الأوساط الثقافية وفي الصحافة الثقافية في بلدان مثل بريطانيا وفرنسا وأمريكا، ويتمحور الجدل حول البحث عن وسائل لحماية مخازن الكتب الصغيرة من الإفلاس والتلاشي، وتتجلى أهمية ذلك في أن انهيار المؤسسات الصغيرة سيحرم القارئ من البدائل وسيحول مؤسسات التسويق الكبرى إلى ديكتاتوريات تتحكم بعمليات النشر وتفرض أنماطاً من الإنتاج لا تتوافق بالضرورة مع الواقع الثقافي بل تتجاهله في كثير من الاحيان لصالح قوانين السوق. ويشير الناقد الأمريكي بيتر دوغرتي في دراسة له حول واقع سوق الكتاب إلى أن القارئ أصبح اليوم نتيجة الاقتصاد المعاصر يرتبط بشبكة معقدة من المؤسسات الوسيطة التي تربطه بالكتاب. لم تعد العلاقة مع الكتاب مباشرة وبسيطة كما كان الحال في الماضي، بل أصبحت تمر عبر قنوات ثقافية واقتصادية وسياسية ترتدي كلها أقنعة ملونة وبراقة. وتتجلى أخطر هذه الأقنعة في آليات التسويق التي تمارسها كبريات مؤسسات النشر والتوزيع والصحافة الثقافية. وفي ظل هذه العوامل لم يعد من المؤكد أبداً أن هذا القارئ يمتلك بالفعل حرية الاختيار والقراءة. وفي مناسبات عديدة تنبه العديد من المثقفين إلى أن الحرية الفردية التي كانت في زمن مضى أحد أسس عملية القراءة لم تعد موجودة إلا فيما يتعلق بكون الفرد مستهلكاً لسلعة في فضاء اقتصادي مفتوح.
وفي هذا السوق الذي تسيطر عليه الاحتكارات الكبرى انتشرت ظواهر جديدة تحاول خلق ما يشبه الإجماع على عناوين معينة أو تيارات فكرية أو ثقافية من خلال ترويج قوائم تحدد ما هو الأكثر مبيعاً والأكثر قراءة لما ينشر من كتب. ظاهرة القوائم هذه أخذت تتخذ شكلاً مقلقاً لكثير من المثقفين؛ حيث تجاوزت كونها مجرد أداة تسويقية لتتحول إلى وسيلة لتصنيع الذائقة العامة.
ويرى الناقد البريطاني روبرت ماكروم أن مؤسسات التوزيع الكبرى تهدف إلى تحويل تجارة الكتب إلى مجرد مواسم للتصنيفات والقوائم حيث تجتاح الحياة الأدبية في العالم في كل ربيع حمى من النشاط الحثيث لإعادة ترتيب ما أبدعه الإنسان من أدب في قوائم غامضة تعيد في كل سنة تلك المحاولة العبثية نفسها لانتخاب الأعمال الأكثر عظمة وتألقاً في تاريخ الأدب العالمي. إن هذا النشاط الكبير الذي تقوم به مؤسسات كبرى في عالم النشر والتسويق والإعلام وتخصص له إمكانات مادية كبيرة وينتج عنه كتب وإصدارات وتخصص له صفحات وملفات في أكبر الصحف والمجلات العالمية ويملأ مواقع شبكة الإنترنت المتخصصة بضجيج حملات الاستطلاع والتقصي يكشف عن مفارقة مثيرة تسم الحياة الأدبية المعاصرة. ففي حين أن كل تلك النشاطات تنطلق من فكرة إمكانية تأسيس إجماع ما حول مجموعة من الأعمال الأدبية، فإن كل القوائم والتصنيفات الناتجة عن ذلك تؤكد أن فكرة الإجماع تلك ما هي إلا وهم. وفي كل عام نعيد اكتشاف الحقيقة نفسها في أن الذائقة الأدبية المعاصرة لا يمكن إخضاعها لأي نوع من المعايير العامة وأن إمكانية الإجماع التي وجدت في التاريخ الحديث المبكر لم تعد ممكنة في العالم المعاصر.
يبدو أن الواقع الاقتصادي بما أنتجه من أزمات وكوارث في العقد الأخير قد أصبح في أيامنا موضوعاً ثقافياً بامتياز ولم يعد حكراً على الجوانب المعيشية. إن التشابك بين الاقتصاد والثقافة يقتضي التأسيس لمبادرات جديدة قادرة على نشر الوعي بخطر آليات السوق على سلوك وثقافة البشر. وتقدم صناعة الكتاب نموذجاً لما قد تحدثه قوانين السوق المنفلتة من أي رقابة أو وصاية من آثار سلبية على الثقافة. لقد بدأ العالم خلال السنوات الأخيرة يستيقظ من خرافة ديكتاتورية السوق ومن وهم الليبرالية الاقتصادية المطلقة بعد أن دفع أثماناً باهظة لها، وها هي الأوساط الثقافية اليوم تتنبه إلى دورها في مكافحة ظواهر الاحتكار وتسليع الثقافة. وفي الحقيقة يمكن ملاحظة حراك ثقافي هام في هذا السياق في بعض المجتمعات الأوربية؛ حيث تحاول العديد من فعاليات المجتمع المدني إطلاق حملات ومبادرات ونشاطات في أوساط الشباب لاستعادة ثقافة القراءة من سيطرة قوى السوق وإعادة الروح إلى العلاقة بين الكتاب وبين البيئة الاجتماعية.