مستفسرة عن مأكله ومشربه وعمله، وعما إذا كان يحتاج إلى شيء ما.. انتابني شعور هزني من الأعماق، وراح يستفزني ويثير بي رغبة الاتصال والبكاء معاً، رغبة الاتصال بكِ، ولكن كيف أطمئنكِ عني؟! كيف لي أن أشرح لكِ ما أنا فيه من ضياع وحزن؟! وأنني وللمرة الثانية أستقل القطار هرباً من المدينة، من العمل، من البيت! كيف بإمكاني الاتصال بكِ لأعلن احتجاجي عبر صوت سيهز أعماقك؟!
.
حين خرجت من المنزل حاملة ًحقيبة السفر، رأيت خيالكِ يودّعني، كنت تودّعينني في كل مرة أسافر فيها، وتستقبلينني بوجه ضاحك فرح، واغرورقت عيناي بالدموع وكدت أجهش بالبكاء وأنا أهبط الدرجات المؤدية إلى الأسفل، إلى أسفل البناء.
في الأمس ليلاً، وفيما كنت أرسل رسائل التهنئة لأصدقائي بعيد الميلاد عبر هاتفي النقال، وصلت إلى حرف «الميم» وظهر لي كلمة «ماما» وفكرت في أن أرسل لك رسالة تهنئة، ولكنني عادةً أهنئك وأنت أمامي، لا عبر الرسائل، وفكرت أيضاً أن الراحلين عنّا لا يقرؤون الرسائل، وإنما يتلقونها فقط عبر لغة ما، فكيف بإمكاني وأنا في مكاني منزوية في ركن من أركان المنزل أن أهنئك؟ كيف لي وأنا هنا أن أرسم لك حروفاً ملء الشوق والحنين؟! كيف لي وأنا القابعة في هذا الركن المظلم، في ركن يقابله ركن آخر شمخت فيه صورتك التي تنساب النباتات الخضراء شلالاً على بروازها، أن أحدثك؟ عيناك كانتا تنظران إلي، تسألانني عن حالي وكنتُ أطمئنك أنه مادامت روحك معي في الأوقات كلها فلا شيء يضيرني.
الأحوال تتغير يا أماه، وأشعر أن هناك أمراً عظيماً سيهبط علي حين غرة، لم أحدس إلى الآن بتفاصيله، ولكنني أستشعر بقوته وعظمته، وحين سيكتمل المشهد أمامي سأخبرك عنه يا أمي.
رأيتك البارحة في الحلم، كنت تضحكين، علام تضحكين يا أماه؟! كل من رآك في منامه من المقرّبين وجدك تضحكين! وهكذا كنتِ في الحياة!
أنا الآن في طريقي إلى دمشق، وددت الهروب من المدينة، البيت لم يعد يطاق من دونك، فبعد أن رحلتِ فقدت الأشياء قيمتها، وران القبح على أجوائها، ليتني أستطيع المكوث طويلاً في دمشق، لأحدثكِ عما أراه يوماً بيوم، فأنت تحبين أن أصف لك ما أراه، فتتخيلين كل ذلك وكأنك معي.
أتذكرين يوم سافرتُ إلى القاهرة؟! وهتفتُ إليك بعد وصولي لأطمئنك عن وصولي ولأصف لك ما أشاهده في تلك الساعة في المطار؟ وما شاهدته في اليوم التالي في خان الخليلي، وفي كل الأماكن التي زرناها، وبعد عودتي أكدتِ لي أنك كنت تتخيلينني في تلك الأمكنة كما لو كنتِ معي.
وصلنا الآن إلى دمشق، إلى محطة القدم، لم تسافري يوماً إلى دمشق بالقطار، الرحلة أجمل يا أمي إن كان القطار يقلك إلى المدينة، أتذكرين يوم سافرنا معاً لإجراء عملية الكلية لك، وعدنا في اليوم نفسه، لأن الطبيب نسي موعدنا وسافر؟ كان يوماً متعباً جداً، لأننا سافرنا بالبولمان، ولو أنا عدنا بالقطار لما شعرنا بالتعب، المهم.. لا أريد أن أذكّرك الآن بالأيام المتعبة، ما أريد أن أصفه لك هو أن الطريق جميل ورائع، وأن الطبيعة تبدو عروساً بحلتها البيضاء، لو أنك ترين الآن المشهد الذي أراه لسررت كثيراً، الثلج يغطي قمم الجبال، ويغطي قسماً من الأراضي البعيدة، الساعة تشير إلى التاسعة صباحاً، بعد قليل سنصل المحطة، الآن بدأ الركاب بالنزول من العربات، ولم يعد بإمكاني الكتابة إليكِ، ولكنني حين سأجلس في مكان ما سأرسل لك رسالة لأصف ما أراه. أي المناطق في دمشق تحبين؟!
أنا الآن في دمشق القديمة، في حاراتها التي تعبق منها رائحة التاريخ، الأجواء هنا جميلة جداً وخاصة في عيد الميلاد، الشباب والصبايا يروحون ويغدون في تلك الأزقة الضيقة، فرحين مبتهجين، كأن دمشق كلها تعيش أجواء عيد الميلاد.
لو أنك ترين معي تلك الأزقة لأحببتِها، بلاطاتها المرصوفة ستذكرك بضيعتنا، بساحة الضيعة تحديداً، وكم كنت تخشين المشي فوق بلاطاتها لئلا تقعي؛ فتتأبطي ذراعي ونمشي معاً، ولو كنت الآن معي لاستوقفك الكثير من المحلات التي تعرض بضائعها، ولكنتُ اشتريتُ لك هذا الشال الذي أراه معروضاً في جام هذا المحل، ألوانه من الألوان التي تستهويك، لكنني سأشتريه حتى ولو لم يكن مصيره على كتفيكِ.
كم يوماً تودين أن أبقى في دمشق؟! ستقولين لي ارجعي إن انتهيت من أعمالك، أو ربما ستقولين لي اتصلي بخالتك وزوريها!! على فكرة فيما كنت أسير في شارع الحميدية رأيتُ من البعيد امرأة تشبه خالتي، كانت قادمة باتجاهي، ظننتُها هي، وما إن اقتربت أكثر حتى رأيتها تشبهك، الشعر الأشقر نفسه، والشكل نفسه، والمشية نفسها، وكنتُ سأركض لأضمها أو لأضمك بذراعيّ، ولكنني تذكرت أنك في عالم آخر، ووصلت المرأة ناحيتي وأنا ما أزال أمعن النظر فيها، فانتبهت لنظراتي وراحت تتطلع إلي باستغراب، ومن ثم ابتسمت وأكملت طريقها.
سأعود يا أمي لن أطيل المكوث في دمشق، أنا الآن ذاهبة إلى المحطة، سأقطع تذكرة الساعة التاسعة، صعدنا الآن إلى القطار، القطار يعج بالركاب، وأصوات الأطفال الفرحين تملؤه، جلست في مقعدي المخصص لي، وبدأ القطار يعلن بصفيره بدء الانطلاق.
وصلنا تقريباً إلى منتصف الطريق، لا يمكنني أن أرى شيئاً في الخارج، الظلام دامس، فما أراه على النوافذ ليس إلا انعكاس لصورة الداخل، داخل ما في القطار، وليس هناك في السماء سوى ضوء نجم لامع.. يذكرني هذا المشهد بأبيات لإيليا أبي ماضي، يصف فيها رحلته في القطار أيضاً، فيقول:
جلست أراقب الجوزاء وحدي/ كما قد يرقب السّاري المنارا
يسير بنا القطار ونحن نرجو/ لو اختصر الطّريق بنا اختصارا
وأقسم لو أحدّثه بما بي/ لحلّق في الفضاء بنا وطارا
أأعجبتك هذه الأبيات؟! أنت تحبين الأدب، وتحبين الدراما أيضاً، أعرف، الدراما السورية، آخر مسلسل تابعتِه هو مسلسل جبران خليل جبران، أتذكرين أنك قلت لي: لقد أحببت قصته، إذ كثيراً ما عانى في صغره، أحببت هذه الأجواء التي عاشها، بين الشعر والرسم. نعم كنت تحبين الرسم أيضاً، كم مشهداً رسمت على البلور في صباك، وكم مشهداً طرزت على القماش؟!
أمي، صوت المضيف يعلن بشيء من خوف أن نتمسك جيداً بمقاعدنا، وأن يجلس الجميع في أمكنتهم الخاصة، شيء ما على ما يبدو يراه السائق أمامه من البعيد، ما هو يا تُرى؟ لا تجزعي لاشيء يدعو إلى الجزع! أسمع الآن صفارة الإنذار، أصوات الركاب بدأت تضج في أذني، الركاب مرتبكون خائفون، وبدأ الأطفال يستشعرون خوف أهاليهم، ها بكاؤهم يدوي في القطار، هناك شيء ما، لا تخافي أمي لا تخافي، بدأت عجلات القطار تصدر صوتاً متقطعاً، صوتاً يصطك بحديد السكة، صوتاً لم أسمعه من قبل، بدأ الصوت يتغير، يبدو هذا الصوت غريباً هذه المرة يا أمي، كأن القطار يخرج عن السكة أو ما إلى ذلك، صورتك الآن أصبحت واضحة أمامي، ها أنت تفتحين ذراعيك لتضمّاني، القطار بدأ يميل بنا يا أمي، بدأ يميل بناااااااااااااا.