تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الثابت والمتحول في تجربة سعد يكن

ملحق ثقافي
10/4/2012
د.محمود شاهين:بغض النظر عن الإشكالات العديدة التي أثيرت حول «الأيقونة» قديماً وحديثاً، يبقى هذا الفن من مجالات التأمل والورع والاتصال بالخالق ورمزاً من رموز الإيمان.

والأيقونة التي تعني الصورة المنفذة على الخشب، وتتناول موضوعات دينيّة مقدسة، لها أصولها القديمة والمعروفة التي جاءت منها، والتي يجب المحافظة عليها، كما أن للمشتغلين في إبداعها أو نسخها، مواصفات خاصة في التقى والورع والإيمان، ويمارسون طقوساً معينة قبل وأثناء قيامهم بإنجازها، وهم في العادة مجهولون، ذلك لأن الأيقونة في الأساس، نوع من الصلاة أو القربان، يتقدم به صاحبه إلى الخالق، بغية مرضاته والعفو عنه، وهذا ما يفسر غياب أسماء وتواقيع مصوري الأيقونات عنها، وبقاء غالبيتها مجهولاً مغفلاً.‏

.

أيقونة حلبيَّة حديثة‏

تشتهر سوريا بامتلاكها لعدد كبير من الأيقونات الهامة، موزعة في أكثر من دير وكنيسة فيها، تعود إلى عصور وأزمنة مختلفة، وقد أخذت غالبية هذه الأيقونات طريقها إلى معرضين كبيرين شهدتهما دمشق وحلب، رافقهما ندوات تخصصيّة طالت هذا الفن بالتحليل والمناقشة والدراسة والتوثيق. وقد تبين من خلال هذين المعرضين، امتلاك الأيقونة الحلبيّة تاريخاً طويلاً ضارباً في القدم، وخصائص متفردة، تأكدت وتبلورت على يد «يوسف بن نعمة» المصور المتوفى عام 1660، ثم على يد ابنه من بعده، وعدد أخر من الفنانين الذين قدموا إلى حلب، من أمصار مختلفة.‏

الفنان التشكيلي الحلبي المعروف «سعد يكن» المولود عام 1950، والذي انتسب إلى كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق مطلع السبعينات من القرن الماضي،‏

.

ثم غادرها قبل أن يتم دراسته فيها، ليعيش ويعمل في مسقط رأسه، وليدير صالة عرض للفن التشكيلي دعاها «النقطة»، يتميز بغزارة واضحة في الإنتاج والعرض. فهو منذ العام 1969 يواظب على إنتاج اللوحة المتعددة التقانات اللونية، وتقديمها للناس عبر سلسلة طويلة ومتلاحقة من المعارض الفرديّة والجماعيّة، بل لقد مرت سنوات كان خلالها يواظب على إنتاج معرض كامل كل عام. في الآونة الأخيرة اتجه الفنان يكن نحو تخصيص كامل أعمال معرضه لموضوع واحد مثل «ملحمة جلجامش» و»الأيقونة» و»التحرّر».‏

حول توجهه نحو إنتاج أيقونة حلبيّة حديثة يقول الفنان يكن بأنه يحب السيد المسيح إنساناً، فمواقفه التي كلفته حياته، جاءت درساً من إنسان وحيد متوحد،‏

.

ولكنه إنسان حقيقي، وتجربته التي كرسها للأيقونة محاولة لرسم موضوعات من الكتاب المقدس، غير مسبوقة تشكيلياً في هذا الفن، لكنه يستدرك مؤكداً أنه يقوم برسم أيقونات روحيّة إنسانيّة عامة، وليس موضوعات مسيحيّة معينة. قد يكون في لوحاته بعض التطابق بين الأيقونات المعروفة وبين التي يرسمها نتيجة تشابه الحدث مثل «المسيح على الصليب» و«البشارة» و«النزول عن الصليب»... الخ. لكن التشابه ـ كما يؤكد الفنان يكن ـ يأتي من حيث الفكرة الأولى وليس من خلال الرؤيا أو التنفيذ التقاني. فهو يقدم المسيح الذي يعرفه في داخله، ومريم التي يعرفها، والحدث الأيقوني الذي يتصوره شخصياً، محافظاً في الوقت نفسه على جانب مهم في فن الأيقونة هو الجانب الروحي.‏

مقومات عامة‏

في أعماله عموماً، يعتمد الفنان سعد يكن على عدة محاور رئيسة يستخدمها وسيلة أساسيّة للتعبير عن موضوعاتها. من هذه المحاور وأبرزها: استخدامه الوجه والأرجل والأيدي من الإنسان، مادة رئيسة للتعبير عن أفكاره المتمحورة حول الإنسان الوحيد المحاصر المنطوي على نفسه والخائب. ولتأكيد هذه الخصيصة وإبرازها، في لوحته يلجأ إلى تحوير الوجوه وباقي المفردات في الهيكليّة الإنسانيّة، وتكثيف التعبير في عدد منها كالعينين والفم والأيدي والأرجل التي يرسمها بشكل متواتر ومتوتر. فهي مشدودة، متحفزة العروق، عصبيّة الحركة، مدروسة تشريحياً بإسهاب، عكس بقية أقسام الجسم. ومن مقومات فنه، استخدامه لعبة التضاد اللوني وتوظيفها بشكل متقن في غالبية لوحاته التي يستخدم فيها، وبرغبة عارمة، اللونين الأثيرين إليه وهما: اللون الأزرق الموشى بالأبيض، واللون الأحمر الناري الصارخ والصريح، وقد أضاف إلى أيقونته الحلبيّة اللون المقدس «الذهبي». وللفنان يكن طريقته الخاصة في فرش اللون فوق جسد لوحته ومفرداتها، فتراه يحاصر الأحمر بالأزرق النيلي والتركواز والأبيض، أو يقوم بفلشه فوق الوجوه، محيطاً إياه بالأزرق والأبيض. والتكوين لديه، حركي يؤديه الجسد الإنساني كعنصر أساس، إضافة إلى مجموعة من المفردات المكملة والداعمة له. وهذا الجسد المتوتر الصامت، والحزين، لا قاعدة لدخوله نسيج اللوحة. فقد ينزل من الأعلى، أو قد ينهض من الأسفل، وقد يدخلها هاجماً من أحد أطرافها الجانبيّة، وقد يأخذ شكله الكلاسيكي، فيستقر في وسطها، ضمن حركة تقليديّة وعاديّة.‏

الملاحظة البارزة في لوحة الفنان سعد يكن، تعاضد الخط «الرسم» واللون في النهوض بمهمة التشكيل والتعبير، فالتكوين يقوم عليهما، إذ كما اللون يأتي الخط: قوياً، صريحاً، حاضراً... وراجفاً متقطعاً، تُشكله المساحة اللونيّة التي تطغى عليه تارة، وتؤكده وتبرزه تارة أخرى.‏

هذه الميزة أو الخصيصة، تؤكد تمتع الفنان يكن بإمكانيّة الملوّن والرسام، وبشكل متكافئ، يسعفه إلى حد بعيد، بالخروج بلوحة متكاملة المقومات والعناصر، باتت لصيقة به، لا تدل أو تُشير إلا عليه، وهو الأمر الذي بات نادراً في حالة التداخل العجيب التي يعيشها فننا التشكيلي العربي المعاصر!!‏

التحرّر‏

«التحرر ـ وثيقة إنسانيّة» تجربة أخرى للفنان سعد يكن قدم لها بالقول: «التحرر هو حاجة الإنسان لإدراك ذاته،‏

.

المقاومة موقف متكامل بين المشاعر والمعرفة والحياة، بعيدة عن النظم والسياسات خلال نصف قرن مضى». وقد جاءت هذه التجربة تحية إجلال وتقدير للشعب الفلسطيني والمقاومة اللبنانيّة على نضالهما عبر أجيال تجاوزت في تضحيتها ـ كما يؤكد يكن ـ حدود التحمل.‏

مقومات شكلية‏

المتابع المهتم لتجربة الفنان سعد يكن، منذ غادر محترفات كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق مطالع سبعينيات القرن الماضي وحتى اليوم، لا بد أن يلاحظ وجود شخصيّة فنيّة ثابتة ومتكاملة الخصائص والمقومات الشكليّة في هذه التجربة، وأن المتحول الرئيس فيها،‏

.

هو الموضوع الذي صال وجال فيه بين الفن الطربي المتعلق بأساطين المنشدين والمغنين في حلب، وعوالم المقاهي، وخواء الذات الإنسانيّة وحصارات الروح المتعددة والمتلونة الأشكال، وعوالم الأساطير والأيقونات، والموضوعات الوطنية والقوميّة ونزوعات الإنسان وأحلامه وهواجسه. فسعد يكن، يمتلك اليوم، أسلوبه الفني الخاص به القائم بالدرجة الأولى على قيم الخط «الرسم» التشكيليّة والتعبيريّة، والتأليفات «الغرافيكيّة» المدروسة الذي يأتي الوجه والأطراف في مقدمة عناصرها ومفرداتها، أما اللون، فهو وبشكل دائم، مساند للرسم وداعم له، ما يجعلنا نجزم أن سعد يكن هو في الدرجة الأولى رسام، لكن هذه السمة لا تنسحب على كامل نتاجه الفني، إذ ثمة لوحات كثيرة، يضعف حضور الخط فيها لصالح اللون «خصوصاً في الأعمال التي يُعالج فيها الأجساد الأنثوية العاريّة» الذي يمده فوق الجسد برهافة وشفافية يتطلبها الموضوع.‏

والتكوين في لوحة سعد، مدروس في عناصره المُشكّلة له، وحركته، وشكل تموضعه في معمار اللوحة، وهو «أي التكوين» مربوط بإحكام إلى الخلفيّة التي يبسطها أحياناً، لإبراز كتلة التكوين الضاجة بحركة الخطوط والألوان والعناصر، أو يُقسّمها إلى مساحات يرمز من خلالها إلى أبواب ونوافذ وقناطر ومسارح أو عناصر أخرى، يدلل من خلالها، على ماهية المكان المرسوم، وفوق هذه التقسيمات، يزرع مفردات وعناصر تكوينه الدائم التحوّل والتغيير، إنما ضمن الملامح العامة لشخصيته الفنيّة اليكنيّة التي باتت تُشكّل نسيجاً خاصاً ومتفرداً، في التصوير السوري المعاصر.‏

إضافة جديدة‏

«الآخر» آخر معارض سعد يكن «أقامه في صالة الآرت هاوس بدمشق» عرض فيه سبعاً وعشرين لوحة منفذة بتقانات لونيّة مختلفة، تابع فيها الموضوع الأثير إلى قلبه «المقهى»‏

.

والذي عالجه في العديد من أعماله، إنما بصيغة جديدة، فيها الكثير من الاختزال والتلخيص والتبسيط والتجديد، يبرز فيها وبقوة سعد يكن الرسام، المسكون بهاجس البحث والتجريب التقاني، إنما ضمن الواقعيّة الحيويّة، والموضوعات الإنسانيّة الشفيفة، المرتبطة بحصارات الروح، وانهدامات الجسد، بفعل الزمن، وسطوة العادة والتعود على إيقاع حركته اليوميّة.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية