ومقابل هذه التحديات الكبيرة، تعززت الذاتية وتعرف الإنسان أولاً على نفسه من خلال الأنا التي كشفت وحوت معظم تناقضات العصر الذي انفتح واسعاً ومتنوعاً أمامها. لقد أدت تحولات المجتمع الغربي إلى تعظيم وتمجيد الفرد الذي يتساءل حول مصيره في قلب المجتمع الصناعي الذي يسير قدماً في تطوره المتسارع، وكان من البدهي أن يشرع الإنسان الذي أراد إثبات أصالة ذاته في البحث المستمر عن سعادة كاملة وتوق إلى تجاوز حدوده الزمانية أو الروحانية عن طريق قد يتيح له حلاً نهائياً لمشاكل الحياة.
.
تركت معجزات العلم في مجال علم الوراثة أثراً نفسياً بالتأكيد، لكنها ما لبثت أن انحصرت في حدود معينة. إن المادية، وكذلك التقنية، لا يمكن أن تمتلكا بحد ذاتهما كل الحلول المعجزة التي من حق الإنسان أن ينتظرها، لأن المادة تبقى دائماً المادة! ومقابل هذا التهديد المتعاظم يصبح أحياناً رد الفعل عنيفاً. إن الثورة الحقيقية لا تحدث مع ذلك في الشارع، ولكن في الصالونات، أو بدقة أكثر، داخل الإنسان.
في الواقع، بعد أن تملكه اليأس والقلق توجه الإنسان الرومانسي نحو أوثان «سحرية» التي من المفترض أن تعطيه سعادة النفس ومعنى لوجوده. إن الإنسان الرومانسي، الذي دشن عهد الحداثة قلق على وجوده، ودون انقطاع، أعاد طرح قضيته في البحث باستمرار عن الحقيقة. هذا الإنسان الذي كان يخضع لمشيئة الأيديولوجيات أو التيارات، كان يعيش في مفارقة دائمة: أحياناً العلم، وأحياناً السحر. وكان يتأرجح بين المادية المحيطة بالمجتمع الغربي وسحر الفلسفات الباطنية أو الإخفائية. وبدلاً من أن تلغي نفسها، فإن هذه القوى المتناقضة ظاهرياً تتحالف في ترابط للطبيعي وما فوق الطبيعي. وتظهر أسئلة معذبة تطرح نفسها: «التحالف بين العلم والميتافيزيقيا أليس هو مشروع أولي لإنسان جديد؟» والثاني «ألا يقود التحالف بين السياسة والسحر إلى الشمولية؟ والثالث، وبدقة أكثر،إلى قدوم الإنسان الساحر؟».
إن الفكر الغربي «ثائر جموح باستمرار، لا يفئ إلى شاطئ، ولا يعرف الاستقرار، ولا الثقة، ولا اليقين «والإنسان الحديث الذي، على غرار إنسان الماضي، مازال يبحث بشكل يأس عن يقينيات، أحياناً متأرجحاً نحو العقلانية، وأحياناً تواقاً نحو التجريبية، أخذ يتخلى عن نقاط استناده وشرع بغزو مناطق ومجالات ماوراء نفسية أو خفية؛ إن السحر، هذه الكلمة الثقيلة بالمعنى، تعود بقوة إلى مجتمعنا الحديث. من المفترض أن يكون «السحر» لازمنياً ويمتلك سلطات متعالية. والبحث السحري- بسبب أحداث يصعب حلها- هو بحث داخلي ومخفي. إنه يفترض علاقة مع اللامنظور، اللامرئي، إنه ربط حقيقي بين»الطبيعي» وما «فوق الطبيعي». هذا الترابط حققه باطنيو العصر الوسيط بالسيمياء، والكابالا، وغيرها. ولكن أيضاً من قبل جمعية حملة وردة الصليب في القرن السابع عشر، وفيما بعد من قبل التيوصوفية والعهد الجديد.
لقد اكتسبت العلوم الباطنية اليوم حق المواطنة بالطريقة نفسها الذي اكتسبته الأديان والطوائف. إن عودة الديني يتشابه مع عودة العلوم الخفية المحيطة، وحلم الإنسان الذي يبقى دائماً متعطشاً، يبقى ذاته. في الواقع، بالتوازي مع التقليد الوثني، ثم المسيحي، تطور خلال العصور، تقليد آخر، التقليد الباطني، المسمى أيضاً الموازي.
ونستطيع القول إن تاريخ السحر يمكن أن يلخص بكلمة: الباطنية. إن سحر مافوق الطبيعي، وخصوصاً اكتساب قدرات خفية وتجاوز القدرات العادية كانت في أصل الاتجاهات الباطنية المتعددة. وكان في أصل هذا التقليد، الأديان الوثنية، ولكن أيضاً الفلسفة وعلم الأساطير الإغريقية. كل هذه العلوم «التقليدية» «شفهية أو كتابية» تطورت وانتشرت وأنجبت تقليداً جديداً، هو تقليد الغرب. إن التقليد الباطني الذي هو تركيبة لكل التيارات الشرقية والغربية يفترض لا بل يبحث عن الخلود وتطور المادة المعتبرة إلهية.
إن الحلولية ووحدة الوجود «مجموع الأشياء تختزل في النهاية إلى مبدأ واحد أو وحدة،بالتعارض مع الثنائية والتعددية» هما الأساسان الإثنان للتيارات الخفية.
على المستوى الأعلى، الإنسان، هذه المادة الخام، المشابهة للرصاص، يمكن تحت تأثير أفعال ما فوق طبيعية أن تصبح مادة كاملة، مساوية للإبريز. وفيما وراء الرمز، نتأكد أن إغواء الإنسان يبقى دائماً ذاته، يعني إغواء الوصول إلى الحالة العليا. إن الوعد القديم للثعبان هو راسخ دائماً، ونشهد في أيامنا تجدد نشاط الحركات الباطنية، وخصوصاً السيميائية.
وينبغي ألا ننسى أن الحركات الباطنية أثرت في الحركة الرومانسية، على الأقل في بعض الكتاب الرومانسيين، من بينهم كلود دو سان مارتان ونرفال وبلزاك ولامارتين وميشليه، وبالتأكيد رئيس المدرسة الرومانسية فيكتور هوغو. بين رومانسية القرن التاسع عشر والعصر الجديد، هناك إذا نسب خفي واضح.
تتميز مؤلفات فيكتور هوغو باتساعها، وقصائده وملحماته وقصصه ورواياته هي روائع أدبية حقيقية. إن اتساع المواضيع المقاربة تضع هوغو في فئة الكتاب الرائين. ألم يقل هو نفسه إنه كان «ابن هذا القرن»؟ وهذا صحيح! هوغو لم يصبح فقط زعيم المدرسة الرومانسية، ولكن أيضاً عاش بكثافة هذا القرن سواء على الصعيد الأدبي والسياسي. قرن من الصراعات الثورية والأبحاث الميتافيزيقية وسمت بميسمها هذا القرن، وأيضاً حياة هوغو. كان هوغو رجل أوثان متعددة. في المقام الأول، الإنسان الذي يمتزج مع الشعب. في الواقع، النثر الهوغوي بأكمله ينزع نحو الإنسان الباحث عن الكمال. وتعتبر «أسطورة العصور»، و»تأملات» و»نهاية الشيطان» هي المؤلفات الأكثر تأثراً بالميتافيزيقية الباطنية.
يقترح هوغو تصنيفاً واسعاً للإنسانية، منذ بداية وحتى نهاية تاريخها. يتعلق الأمر في الواقع بملحمة ضخمة مصدرها الوحيد هو الباطنية. ونشهد تطور الإنسان نحو الكمال، وهذا بواسطة الفعل الخيري للإله الذي يعفو عن أخطاء جميع الكائنات، بما فيها أخطاء الشيطان! إن رومانسية هوغو ستغير اتجاهها نحو الفضاءات العليا للعلوم الخفية. هذا الشاعر الساحر انحرف جهاراً عن المبادئ المسيحية. في الحقيقة، يحمل الشيطان، بالنسبة لهوغو، اسماً جديداً: حرية. الحرية الهوغوية ليست سوى ثورة الشعوب ضد كل الاستبدادات الإنسانية! إن «الحرية»- حسب هوغو- هي في الواقع مديح صنع الشيطان. هذه الأبيات المأخوذة من «تأملات» تبرهن على ذلك:
«سيقال كل شيء. سينتهي الشر؛
وستنضب الدموع؛ ستختفي السيوف والأحزان والهموم؛
وستتوقف الهاوية المريعة القاسية عن صم أذنيها، وستمتم: «ماذا أسمع؟»
وسيصرخ ملاك: «بداية!»
إن الملاك، وبعبارات أخرى رئيس الملائكة، سيقول إذاً: «بداية!». وتجدر الإشارة أن «نهاية الشيطان» تجري على مستويين: خارج الأرض حيث يظهر لنا هوغو في رؤى كونية المصير ما فوق الطبيعي للشيطان، أمير الشر في الاتساع العجيب للمكان والزمان. إن روح الشر يستحوذ على الأرض، ولكن قوته ليست خالدة. إن الشيطان هذا الملاك الثائر، يسقط بشكل لامتناهٍ: الملاك حرية يحصل من الشيطان- كما أسلفنا- على حركة قوية، والشيطان المغفور له، يصبح لوسيفر، ملاك النور. هذه القصيدة هي قصيدة العفو حيث نشهد في الحركة الأولى منها اختراع أسطورة الشيطان الذي تحل عليه الصاعقة ويهبط في الهاوية، الشموس حوله تموت الواحدة تلو الأخرى، والليل يزداد كثافة. صرخات ثورة وحقد وكراهية، يشعر الشيطان بأنه يزود بجناحين، الملاك الذي كان يموت، والشمس الأخيرة تنطفئ كجمرة. وها هي الآن المعجزة التي بها سيكون خلاص العالم. يحصل الشيطان على الغفران ويموت في خاتمة مدهشة.
ومن هنا يولد ملاك الحرية الهارب من اللعنة ويلج شيئاً فشيئاً بشعلته هذا العالم المظلم من «ريشة» سقطت من جناح ملاك الظلمات، هذه الريشة يصيبها فيما بعد شعاع سيخصبها، وسيسمو به وسيحوله حتى الكائن المطلق.
وهكذا يعتبر هوغو أن الشيطان مرتبط بعملية الخلاص، بدقة أكثر مرتبط بإعادة اندماج ومصالحة جميع الكائنات المخلوقة والناس الآثمين، والشيطان وأبالسته! وأن الخلق يجدد نقاءه البدائي، وأن الشر سيزول نهائياً، وستتوقف الآلام، وستستقيم طبيعة الإنسان الأصلية، و هنا نرى كل الفلسفة الباطنية عند هوغو. إن الفكر الهوغوي هو فكر كل الغنوصيين وحملة وردة الصليب: نفي الخطيئة والآلام الخالدة، والشيطان الذي سيعود طيباً وإعادة اندماج الأرواح من خلال التقمص. وهذا ما يفسر أن هوغو عكف في وقت من حياته على الطاولات واستحضار الأرواح في عام 1853، وكان لديه استعداد نفسي لهاجس المجهول والسر. ولكن بعد التدرب على معتقدات الكابالا، كل حركة من هذه الحركات، وكذلك كل صورة مع صور الماضي تلقت معنى جديداً، وتوجهت بشكل أوسع نحو الأسطورة التي تهيأت في المحاضر الرسمية لجلسات تحضير الأرواح في جيرسي.
دافع هوغو بشكل جلي في «نهاية الشيطان» عن معنى الدراما التوفيقي والسقوط واحتواء الشر ثانية.
هذا الجهد لإعادة إدماج الشر في الخير والظلمات تحت الشكل الأسطوري للشيطان يمكن الوصول إليه بسهولة في الرومانسية الأدبية. لقد شرعت الملحمة الرومانسية بدعوى واسعة لإعادة الاعتبار الأسطوري للشر. وكانت هذه الرومانسية وريثة الأدب التوراتي والإيغونوغرافيا القروسطية والفردوس المفقود لميلتون. ونستطيع القول أخيراً إن هوغو كان الكاتب الساحر، ولكنه لم يكن الوحيد.