هل المانع لأن فلسطين ليست عضواً كاملاً في الأمم المتحدة, وأن المحكمة تختص فقط بالنظر في قضايا الدول ذات العضوية الكاملة بالمنظمة الدولية على نحو ما قال مكتب المدعي العام للمحكمة في توضيح أسباب الرفض, أم أنه كان سياسياً أكثر منه قانونياً, ويتصل بسياسة الانحياز والكيل المزدوج التي يمارسها الغرب حيال قضايا المنطقة.؟
قد يكون المانع من الناحية التقنية هو أن الطلب بالتحقيق لم يستوف الشروط القانونية للنظر فيه بحجة أن الجهة التي تقدمت به ليست عضواً كامل العضوية في الأمم المتحدة, لكن الأسئلة التي تثار هنا وتتطلب أجوبة منطقية هي: هل تعلُق حقوق ضحايا الجرائم الإسرائيلية ومساءلة إسرائيل عن جرائمها لمجرد أن القانون لا يسمح بالتحقيق لأن فلسطين ليست عضواً بالأمم المتحدة..؟ ثم إذا كانت تلك هي حجة المحكمة فهل يعني ذلك أن على الفلسطينيين انتظار الوقت الذي يحصلون فيه على العضوية الكاملة لدولتهم حتى تصل العدالة الدولية إليهم؟وإذا لم تصبح فلسطين دولة كاملة العضوية في ظل الفيتو الأميركي الجائر ضد هذا الحق القانوني, فهل يعني ذلك إبقاء موضوع الجرائم الإسرائيلية معلقاً وغير قابل للنظر من جانب المحكمة رغم ما يمثله هذا الموقف من تشجيع لإسرائيل على ممارسة ما هو أبشع بكثير من جرائمها المرتكبة على بشاعتها, لأنها ستجد نفسها في ظل هذا الموقف محصنة أمام القانون الدولي وأحكامه القاضية بإخضاعها لسلطان العدالة الدولية ومحاكمة مسؤوليها عن جرائم مارسوها على مدار أكثر من ستة عقود واتخذت طابع التهجير القسري والمجازر الجماعية وحروب الإبادة والتطهير العرقي وسياسة التغيير الديمغرافي والتهويد للوضع السكاني الفلسطيني..؟
في تقويم الحجة, لا نراها أكثر من ذريعة أوهى من أن تبرر رفض طلب عادل, وهي تذكرنا بحجة مماثلة تم بموجبها إغلاق ملف جرائم الحرب الإسرائيلية في مدينة جنين الفلسطينية عام 2002, وقامت حينها على الادعاء بأن التحقيق في تلك الجرائم البشعة وإصدار حكم القانون فيها رهن بموافقة إسرائيل على تشكيل لجنة تحقيق بالاتهامات, وحين رفضت إسرائيل هذه اللجنة تم طي الملف.
وفي تحديد خلفية الاتكاء على هذه الحجة الواهية, نجد أنها تكمن في جملة أهداف سياسية أبرزها:
1- التغطية على عجز المحكمة الجنائية الدولية بسبب انحيازها, عن ممارسة استقلاليتها ومسؤوليتها القانونية والأخلاقية حيال ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من جرائم منظمة تتعلق بحقه في الحياة والأمن, وتمثل انتهاكات فظة للقانون الدولي الانساني ولاتفاقيات جنيف.
2- منع العدالة الدولية من الوصول إلى إسرائيل وتطبيق أحكامها بحقها, والتي إن طبقت بملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين أو بوضع إسرائيل تحت البند السابع لميثاق الأمم المتحدة لاعتبار سياستها والجرائم التي ترتكبها مصدر تهديد للأمن والسلم الدوليين, لما كانت استمرت بممارسة هذا الكم الهائل من الجرائم ليس ضد الشعب الفلسطيني فقط, بل أيضاً ضد العرب والمنطقة واستقرارها الذي يشكل الجزء الأهم من الاستقرار الدولي بحكم أهميتها الجيواستراتيجية وتقاطع الكثير من المصالح الدولية فيها.
3- إبعاد شبهة الانصياع للغرب عن المحكمة, والذي يتجلى بدور مزدوج يكيل الاتهامات جزافاً لكل دولة عربية تستعصي على سياسة التطويع الغربي. وإبعاد الشبهة يتم بمبررات هشة وواهية للتهرب من دورها المطلوب في تطبيق العدالة الدولية عندما يتعلق الأمر بإسرائيل والواجب الدولي في مقاضاتها على جرائمها وملاحقة المسؤولين عنها بوصفهم مجرمي حرب.
والخطير في مسألة الدور المزدوج هذا, هو أنه كان نتيجة لاحتواء أميركا للمحكمة رغم رفضها الانضمام لعضويتها تفادياً لمساءلتها عن جرائم حروبها في أكثر من مكان من العالم وكان آخرها جرائم حربها على العراق وما انتهت إليه من قتل 1.5 مليون مواطن عدا جرائم تهجير ملايين العراقيين في الداخل والخارج, وتدمير البنى التحتية للعراق ونهب موارده النفطية والمالية.
إن رفض المحكمة للتحقيق بالجرائم الإسرائيلية يجعلها ضالعة في لعبة سياسية تقوم على تعطيل العدالة لتمييع حقوق الضحايا الفلسطينيين بذريعة ربط النظرفي الطلب الفلسطيني بحصول فلسطين على عضوية كاملة في المنظمة الدولية,وتصبح هذه اللعبة أكثر من مكشوفة عندما نعرف أن المحكمة استغلت هذا الأمر رغم إدراكهاً لاستحالة تحقيقه في ظل موقف أميركي رافض له ولا يتردد في التلويح باستخدام الفيتو ضد أي مشروع أو تحرك يرمي إلى تحقيقه, وعلى النحو الذي شهدناه في إسقاط طلب العضوية الكاملة في ايلول الماضي.
إن الدم الفلسطيني وهو جزء من الدم العربي والإنساني, يستباح بهذه الطريقة المتوحشة وتتم إضاعته بتواطؤ مكشوف بين أميركا ومؤسسات يفترض فيها العدل لكن لا تمارسه, لا بد من حمايته وضمان حقوقه, ومسؤولية حمايته تقع حصراً على المجتمع الدولي كافة لأن القضية هنا إنسانية صرفة, وتجسيد هذه المسؤولية يتحقق في تحديد موقف واضح من التلاعب الأميركي والغربي بالقانون الدولي وتفسيراته وفي العمل على تصحيح دور المؤسسات المعنية بتطبيق العدالة الدولية بعيداً عن الانحياز والكيل المزدوج.
وإذا كانت مؤسسات العدالة الدولية تتكىء على ثغرات قانونية لتسويغ انحيازها, فعلى المجتمع الدولي وخصوصاً منه العرب سد هذه الثغرات بطلب تعديل القوانين الناظمة لعملها.