وهي سجل يعرض العمارة الإسلامية ويعرض ديوان شعر العرب، إنها سجل حياة في زمان ومكان، لكنها ليست مصنف رحلة أو تاريخ، بل مجموعة من حكايات ممتعة تستند في أدائها إلى مكانة الراوي في مجتمعات شرقية تتذوق الحياة وتستعيد صورها في ليل متسع.
إذاً حكايات «ألف ليلة وليلة» هي شرقية بامتياز وعربية اللسان والمكان وذلك بشهادة العديد من الكتّاب والمبدعين الأجانب الذين كانت لهم مصدر إلهام من مثل «لويس لانديرو الذي صرح أن رواياته حملت أشكالاً وألواناً من هذا السفر النثري الإنساني المليء بالرؤى والخيال، وتولستوي الذي استمع إلى حكاياتها وهو فتى وفتنته حكاية قمر الزمان والست بدور، أما بلزاك فقد تمنى أن يؤلف بالكوميديا الإنسانية ما يشبه ألف ليلة وليلة اجتماعية.
لكن لصوص التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا ساءهم أن تنسب إلى العرب، فأرادوا سرقة حتى مفردات ذاكرتنا وتراثنا د. ناديا خوست العاشقة أبداً للشام التي كتبت عن دمشق ذاكرة الإنسان والحجر العروبية القومية التي أكدت غير مرة في مجموعاتها القصصية أن لا مكان للغريب بيننا ها هي اليوم تصدر دراسة جديدة تدحض فيها الادعاءات بيهودية «ألف ليلة وليلة»، وتؤكد عروبتها وهي إذ تقدمها ضمن سياق روايتها التاريخية فلأنها تعبر عن امتنانها لأول كتاب قرأته في طفولتها، وللزمن الذي حشد حكايات لا تقل عنها جمالاً، خوست المهتمة بالعمارة العربية والبيوت الدمشقية أوحى لها ما جمعته من معلومات تاريخية خلال كتابة رواياتها بموضوع هذا الكتاب.
وتبين أنها بعد إنجازه بسنوات، سقط في يدها كتاب يهب فيه كاتبه العراقي ألف ليلة وليلة لأحبار اليهود فنياً وفكرياً! وهي تربئ بنفسها أن تذكر اسم الكتاب أو الكاتب لأنهما لا يستحقان الذكر، إذ إنه يقع في سياق التهويد الذي يسلب العرب أرضهم وماءهم وزيتونهم وعمارتهم وملابسهم وحليهم وطعامهم.
يأتي كتاب د. ناديا خوست «ألف ليلة وليلة» والرواية التاريخية ليرد - ولو دون قصد - حسب الكاتبة على من يتناول التراث الأدبي العربي بخفة، ومن يتبرع بمؤلف عربي إسلامي للغرباء وعليه فإنها تهدي كتابها إلى مدينة الحضارة العربية بغداد، التي نهب متحفها وأحرقت مخطوطاتها، وإلى القدس التي تدمر ذاكرتها التاريخية وهويتها المعمارية.
الفن في أحد تجلياته هو نتاج زمان ومكان، ونداء إلى الأزمنة وسط هذه العلاقة المعقدة ترى د. خوست ألف ليلة وليلة وتلمح أصول الشخصيات والأحداث التي شيدتها، وتبين أن الفن لا ينقل حادثة معينة فقط، بل يتناول الجوهر الذي يجعلها ممكنة في زمان ومكان، ويجمعها بحوادث مشابهة، من هنا نكتشف نقص كثير من البحوث الغربية التي ضيقت الليالي فرأتها تعبيراً فارسياً، أو أعادت أصولها إلى الهند، فتجاهلت امتداد الحضارة العربية في مجال جغرافي واسع مركزه بغداد، وتتساءل الكاتبة هل يمكن أن يتناولها باحث دون أن يكون مؤهلاً بمعرفة التاريخ العربي ومؤلفاته الكبرى، ومعرفة الشعر العربي الذي أسس البنية الروحية والثقافية العربية الإسلامية والتعبير الأدبي عنها، فكاتب ألف ليلة وليلة أو كاتبتها أو كتّابها، يبدو أنهم كانوا قريبين من مركز المعلومات وبعثات الرحالة والموفدين وقصور الخلفاء والسلاطين، محيطين بالتيارات الفكرية، ومن تلك المعلومات تناولوا الوقائع التي أسسوا عليها البناء الفني، وكانوا مطلعين على ثقافة عصرهم فأسسوا على تسلسل الليالي، وعلى الإيهام بنقل أحداث حقيقية، كالمؤرخين العرب الذي أسسوا مؤلفاتهم على تسلسل السنوات ونقل أحاديث الرواة عن الأحداث، واعتمدوا مثلهم رواية الشعر كعنصر مركزي يصوغ ثقافة الخاصة والعامة، ووسيلة تعبير متصلة ببنية اللغة نفسها، ورووا مثلهم أحداثاً عن شخصيات تاريخية.
بعض الحكايات كما تبين أن الكاتبة كتبت في زمن بعيد عن نعيم زمن الرشيد فتردد فيها صدى غزو الفرنجة وقرصنة السفن وأسر ركابها، كما أن ثقل الغزو الفرنجي وما رافقه من اغتيالات أو محاولة اغتيال قادة الجيوش المقاومة تفسر التناقض بين رخاوة الحكايات عن زمن الرشيد والحكايات الأخرى التي انصرفت للدفاع عن الإسلام، وتوضح أيضاً اجتماع الاستسلام للحب والحياة، مع صرامة الموقف من العدو الديني.
المؤلفة لم تتوقف عند بطلة الليالي الأولى شهرزاد التي جسدت ذلك الزمن، والمثقفات اللواتي يؤدبن بالحكمة والشعر والتاريخ والفقه، وبالمهارة في المحادثة ولطف المعشر والذكاء، والاعتداد بالكرامة، ولا هي بحثت في طبعاته لتقارن إحداها بالأخرى، لكنها تؤكد أن الليالي بتماسكها تبين أن كاتباً ماهراً قد كتبها كما توحي هشاشة بعضها والإضافات فيه بكتّاب آخرين، وتؤكد أيضاً أصالتها بصلتها بالرواية التاريخية المعروفة في المصنفات العربية، يسند ذلك أن بعض الباحثين ذكروا أن ابن النديم أكد في فهرسه أنه رأى النسخة الكاملة من «ألف ليلة وليلة» بتمامها مرات، وأنها تضم أقل من مئتي حكاية تمتد الواحدة منها على أكثر من ليلة، إذاً كانت موجودة في القرن العاشر، في زمن المسعودي وابن النديم، كمئتي حكاية وتداول الناس مقتطفات منها، كما تداولوا مقتطفات من كتب أخرى، وأضيفت إليها فيما بعد حكايات أخرى.
وتشير د. خوست إلى أننا إذا آمنا بأن ألف ليلة وليلة حكايات خيالية لا علاقة لها بالواقع فإننا نفقد أثراً ثميناً، وهي ربما تبدو كذلك لأننا نراها في زمن مجدب، ولأننا ضيعنا نضارة الروح، والقدرة على الدهشة، ومتعة الاكتشاف وأصبحت مجالات الخيال جرداء ومنعت السرعة لوعة الحب ومتعة الأشواق.
وضمن الرواية التاريخية أيضاً تؤكد الكاتبة أن مكانها ديار الحضارة الإسلامية، ومركزها السحري دمشق ومصر وبغداد في زمن الرشيد، لكنها تمتد في العالم القديم وتصل إلى الصين وإفريقيا وتضم بلاد فارس والروم وأفغانستان وأذربيجان والهند والسودان.
وتتنوع شخصياتها بتنوع ذلك العالم الساحر ولا تبتعد حكاياهم عن الرواية التاريخية، بل تتناول الجوهر منها، وأحياناً الأحداث، وتصوغها صياغة فنية.
أما شهريار بطل الليالي فهو شخص من ديار الإسلام، رغم أن شهريار الحقيقي يذكره المسعودي بين ملوك الفرس، ومن القتل تبدأ فكرة الليالي كذروة فنية لكنها كملحمة كبرى واجهته بنقيضه، وتظهر نساء «ألف ليلة وليلة» مثقفات شاعرات، بعضهن أميرات وملكات وحكيمات وعزيزات، وتجسد أولئك النساء الجمال، بمعيار عصرهن وتتنوع مصائرهن، وتوحي لنا قصائد شعراء الحب العذري بتقديس المرأة، وقد عبر شعر الغزل عن مكانة الحب في الحياة العامة والأدبية، وثبتت الرواية التاريخية قصصاً مؤثرة عن المحبين رفعت مصائر العشاق إلى مستوى أسطورة.
وتتحدث الكاتبة عن الشعر والعمارة والبيئة في حكايا «ألف ليلة وليلة» والطعام والأواني وأصول الأكل في تلك المجتمعات وطقوسه والملابس والأقمشة وأيضاً النظام السياسي والطبقة السياسية في الرواية التاريخية، وعن دقة المؤرخ العربي الذي لم يقدم الأخبار فقط، بل أوحى بموقف في مسألة العدل والظلم، وتتطرق إلى الأحلام إذ توسع الرواية التاريخية «كألف ليلة وليلة» مكاناً لها وتنبش بها الهواجس، ووهن الإنسان أمام الموت، وتكشف الوجع في شخصيات التاريخ، وجروح الروح التي يتركها الصراع على السلطة فترسم للمعاصرين ملامح حية تبعد عنه رؤية تلك الشخصيات بلونين أبيض وأسود.
وتشير إلى أنه في زمننا أول نسخة مطبوعة من ألف ليلة وليلة كانت سنة 1835 في بولاق في مصر والمخطوط الأصلي موجود في المكتبة الوطنية بباريس، ومن حظنا أن المصادفة أنقذته من حرائق الغزاة، كما تأمل بأن تكشف المخطوطات العربية التي لم تفهرس في العالم، نسخة ألف ليلة وليلة.
الكتاب: ألف ليلة وليلة والرواية التاريخية. - الكاتبة: د. ناديا خوست. - ط1 - 2011. - الناشر: دار صفحات للدراسات والنشر.