الدكتور باسل المسالمة يترجم كتاب «ما بعد الحداثة» لسيمون مالباس، وقد صدر حديثاً عن دار التكوين بدمشق، نقف اليوم عند تعريف موجز للكتاب ونترك للقارئ الغوص في تفاصيله حين الرجوع إليه.
ما معنى الحداثة؟
في مقدمته يشير المترجم إلى أن مصطلح ما بعد الحداثة يعد من أهم المصطلحات المعاصرة، إذ يشير إلى الميول والتغيرات والتطورات التي طرأت على الأدب والفن والموسيقا وفن العمارة والفلسفة وفروع المعرفة الأخرى منذ الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين وتختلف ما بعد الحداثة عن الحداثة، إذ يراها البعض بأنها ردة فعل على الحداثة إذ ينطوي مصطلح ما بعد الحداثة على أن الحداثة قد انتهت ولكن هذا ليس صحيحاً فلا يمكننا أبداً أن نرسم خطاً واضحاً يفصل بينهما، إذ لا يزال تأثير الحداثة ملموساً في المجالات الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية كافة.
إن مصطلح «ما بعد الحداثة» ضروري ومهم في فهم الحياة المعاصرة ولكن ثمة صعوبات كثيرة تواجه كل كاتب لدى دراسة أي حركة ثقافية وفكرية، لقد كتب الكثير عن هذا المصطلح ولكنه لم يقدم بهذا الشكل الدقيق والمحكم.
لذلك يقدم هذا الكتاب قراءة واضحة ودقيقة لحركة ما بعد الحداثة وحقبتها، وكيف تغير ما بعد الحداثة أفكارنا عن الثقافة والمجتمع والسياسة والفلسفة.
فصول الكتاب
يقع الكتاب في 206 صفحات من القطع المتوسط ويتوزع على خمسة فصول، يركز سيمون مالباس في الفصل الأول على الصعوبة التي واجهته في تقديم قراءة مرضية لما بعد الحداثة فهو مصطلح يأبى التعريف ويتسم بالتعددية.
وتعد ما بعد الحداثة ظاهرة لا يمكن اختصارها إلى لغة مجال معين أو نمط فكري ما، ذلك أنها تتجاوز حدود المعارف الأخرى، وقد تتضارب أحياناً بعض التعاريف والقراءات لأن كل فرع من فروع المعرفة يبني فهماً خاصاً لهذا المصطلح، ويحاول مالباس التغلب على هذه الصعوبة من خلال التمييز بين «ما بعد الحداثة» بوصفها حركة فنية وأدبية و«ما بعد الحداثة» بوصفها حقبة تاريخية معينة.
ويوضح الكاتب أن حركة ما بعد الحداثة تركز أساساً على مسألة الأسلوب والتمثيل الفني في حين تشير ما بعد الحداثة إلى سياق اجتماعي معين أو حقبة تاريخية محددة.
ويعطي مثالاً لذلك فقد بدأت الفنانات خلال الثمانينات من القرن العشرين بتحدي التوازن الموجه من الذكور حول تأسيس الفن وكانت إحدى المجموعات الناجحة من الفتيات المحاربات تسمي نفسها «ضمير عالم الفن»، إذ استخدمت وسيلة المسرح للإشارة إلى التمثيل الناقص للنساء في صالات العرض الرئيسة.
وكانت إحدى القطع التي بدأت في شكل ملصقات لوحة، ولكنها تتكرر الآن كثيراً كعمل بحد ذاتها بعنوان هل يجب على النساء أن يكن عاريات ليصلن إلى متحف المدينة؟ وعليها صورة أنثى كلاسيكية عارية ترتدي قناع غوريلا بجانبه ادعاء يقول إن أقل من 5٪ من الفنانين في أقسام الفن الحديث هم من النساء، ولكن 85٪ من العراة هم من الإناث ومن بين فنانين آخرين استخدم الثنائي البريطاني سارة لوكاس ويريسي أمين عملهما للسخرية من الحضور البدهي الجنسي والذكوري وتحدي هيمنة البنى المتعلقة بالهوية بين الجنسين التي تقدم الرجال كحيوانات مفترسة شرهة والنساء كضحايا مستسلمات لهذه الحيوانات.
ما بعد الحداثة
يناقش الفصل الثاني من الكتاب مبادئ البحث في حركة ما بعد الحداثة من خلال تفاعلاتها مع الحداثة التي برزت في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وقد اختار مالباس للنقاش ناقدين هما جان فرانسوا ليوتار ويورغن هابرماس إذ يعدهما مفكرين أساسيين نظرا للحداثة وما بعدها، ويشير النقاش إلى اختلافهما فيما يتعلق بما بعد الحداثة من خلال طرح سؤال مهم: هل تمثل ما بعد الحداثة ثقافة ضحلة دون أجندة سياسية أم أنها تحتوي على منظور سياسي وراديكالي؟ في خط التفكير الثاني نجد ليوتار الذي يقدم قراءة لحالتنا الحالية من خلال الإشارة إلى انحلال السرديات الكبرى وعملية تحويل المعرفة إلى سلعة.
ورغم أن نهجه يلفت الانتباه إلى نفي الأشياء الموجودة في حياتنا اليومية، إلا أنه يعزز ما بعد الحداثة بأن لها احتمالية النقد والمقاومة وتقويض النظام الحالي، وهذا ما يتضح في مفهومه عن «التسامي ما بعد الحداثي».
الذات والأنا
في الفصل الثالث يتحدث المؤلف عن الذات التي تعتبر مقولة أساسية في الفكر الحديث، فهي الأنا الذي يختبر العالم ويتفاعل معه، وهي موضوع تفكير عدد من مفكري ما بعد الحداثة لأسباب شتى، وقد صارت الذات موقعاً للصراع بين النظريات والممارسات المتنافسة التي تدور حولها باستمرار مسائل الأخلاق والسياسة والتمثيل منذ عصر النهضة على الأقل.
وفي نقاشه للذات يبدأ مالباس بفيلسوفين هما ديكارت وكانط اللذان لعبا دوراً بارزاً في خلق مفهوم الذات الحديثة ومن ثم يتناول نظرية فرويد حول اللاوعي واستكشافات كل من فانون وسيكسو للذات ضمن السياقات الأبوية والكولونيالية (أو الاستعمارية) التي قدمت تحديات مهمة لمفهوم الحداثة للذات المستقلة والعقلانية، ويتبع ذلك نقاش حول الذات ما بعد الحداثية والهوية كأداة والتفاعل المستمر بين الأشخاص والتكنولوجيا.
الحداثة والتاريخ
في الفصل الرابع يبحث المؤلف في التاريخ من خلال استراتيجية مماثلة ويتناول كيف يطرح المفكرون ما بعد الحداثيين مثل فوكوياما وبودريار موضوع انحلال الرؤية الحديثة للتاريخ كسردية كبرى من التقدم الذي يمثله أساساً هيغل، ويمعن مالباس النظر أيضاً برؤية الكاتب هايدن وايت ما بعد الحداثية للتاريخ بوصفه بناء سردياً لم يعد قادراً على ذكر العالمية، وكيف يتناول مفكرون مثل هومي بابا وجوليا كريستيفا التواريخ البديلة للجماعات الصامتة كالناس المستعمرين والنساء.
السياسة الحديثة
ويركز الفصل الأخير على السياسة إذ يبدأ مالباس في هذا الفصل بنقاش السياسة الحديثة التي جسدتها محاولة كارل ماركس لتأسيس سردية كبرى وبديل يناقض السرد الذي أوجدته الرأسمالية ومن ثم قراءة ما بعد الحداثة للسياسة التي قدمها مفكرون مثل فريدريك جيمسون وجان بودريار اللذين خاضا في صعوبة السياسة وإمكانية الكلام عنها ضمن سياق ما بعد الحداثة.
وفي نهاية البحث يقدم مالباس مسرداً بالمصطلحات لتساعد القارئ على فهم مصطلح يعد من أهم المصطلحات الثقافية والأدبية في الدراسات المعاصرة.
بطاقة تعريف: - الكتاب: ما بعد الحداثة. - المؤلفة: سيمون مالباس. - ترجمة: د. باسل المسالمة. - الناشر: دار التكوين - دمشق.