تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الصوت الذي لا يشيخ

آراء
الاثنين 8/9/2008
جلال خير بك

كنتُ في اللقاء الماضي, قد ذكرتُ الشاعر الكبير سليمان العيسى.. شاعر العروبة والبعث والثورة.. أثناء حديثي عن تكريم المبدعين في بلادنا.. وها هو الزميل الدكتور اسكندر لوقا, يكتب منذ أيام عن تصريح شاعر الحلم العربي,

لجريدة الثورة: بأنه يغادرنا إلى مركز صحيّ في جنوب تشيكيا لتلقي العلاج الفيزيائي.‏

وإذا كنت في اللقاء السابق, قلت: إن المطلوب من الجهات الرسمية, ليس فقط تكريمه بهديّة رمزية وبعض الكلمات.. بل يفرض المنطق علينا أن نضمن له ولأمثاله من أعلامنا: حياة كريمة لا يحتاجون فيها لشيء كي يتفرّغوا لإبداعهم الأدبي وسواه.‏

لست أدري إذا كان شاعرنا قد سافر على نفقته الخاصة أو على نفقة الدولة: بعد هذه السنين الطويلة التي قضاها يغني لنا العروبة والبعث والأحلام العربية.. لكنّ الوفاء يجعلنا نجزم سلفاً بأن أوّل واجبات هذه الدولة: أن تعتني به وتعالجه مع نظرائه من الأدباء والأعلام.. لأن ذلك الذهب العتيق يجب أن يُصان, وخاصة أن الدكتور لوقا القريب منه, قد أشار إلى أن الشاعر لا يطلب يد العون من أحد حتى إذا كان ذلك الأحد, ولداً من أولاده!‏

بعد هذا العمر المديد من النضال والكفاح الذي أمضاه سليمان العيسى: لم يحِدْ فيه عن مبادئه وأخلاقه وآماله بأن هذه الأمة لا بدّ أن تنهض وتحقق وحدتها.. وتعيد تاريخها المجيد, وإسهامها الخلاّق في بناء الحضارة الإنسانية.‏

نشأنا منذ أن كنا صغاراً, على أشعار سليمان العيسى: نحن والأجيال التي جاءت بعدنا.. وليس ثمة تلميذ أو طالب أو شاب, إلاّ ويعرف بيته الشهير هذا:‏

أمة العرب لن تموت وإني‏

أتحدّاك باسمها يا فناء‏

فقد أمضى حياته كلها -كما قلنا- وهو يغنّي لأجيال الأمة. وما أزال أذكره في بداية السبعينيات بدمشق يوم انعقد مؤتمر الأدباء الثاني الذي تخلّله مهرجان الشعر الأول, وحضره كبار الشعراء والأدباء من الأقطار العربية.. أنه جلس يستمع إلى قصائد بدوي الجبل والجواهري ونزار قباني ومصطفى جمال الدين وصالح جودت وكثيرين غيرهم.. وحين جاء دوره صعد المنبر ومعه فرقة من أطفال المدارس: أنشدت وغنّت أشعاره التي كتبها خصيصاً لهم, ولما سألناه عن هذه المفاجأة في مهرجان بهذا الحجم.. قال:‏

لقد توجهت بأشعاري إلى هؤلاء الصغار لأن الأمة أعيتني عقوداً طويلة وأنا أغني لها وأحضّها على بعث ماضيها.. لكنها لم تتوحد ولم تحقق هذا الحلم العربي الكبير.. لذلك آمل أن ينشأ جيل هؤلاء الأطفال على هذا الأمل فيعملوا على تحقيقه وينهضوا بجدارة بتلك المهمة السامية.‏

ويوم كُرّم منذ فترة بمناسبة الندوة التي أقيمت من أجل الحفاظ على اللغة العربية والنهوض بها.. أذكر أنه قال وكرّر:‏

لغة الضاد لن تموت وإني‏

أتحدّاك باسمها يا فناءُ‏

فهل يئس من الأمة.. ونقل أحلامه التي غناها وأنشدها لها.. إلى اللغة العربية: هذا الجامع الكبير لها ولقضاياها بل العماد الأساسيّ لها?‏

ليس سهلاً على شاعر بحجم سليمان العيسى, أن يجد أحلامه بالوحدة, قد تبخّرت.. ولم تستطع قصائده اللاهبة وصوته القوي أن يُعيدا إلى الأمة ألقها الأول وتوهجها: فتتوحد كما كانت وتحقق ذاتها من جديد.. ليس سهلاً أن يشيخ وهو مازال يحدوها بأناشيده وأشعاره: غير يائس من حتمية تحقق تلك الآمال.. ومع ذلك لا يحصد إلاّ قبضَ الريح!‏

سليمان العيسى ذلك الشاعر الكبير الهرم الذي يرفض أن تشيخ كلماته: لم تعد تسعفه رجلاه أو جسمه: ما زال مصرَّاً على أحلامه التي رافقته منذ صباه وهو في لواء اسكندرون وحتى سكناه في دمشق والبقاء فيها حتى الآن.‏

وإذا كنا نتمنّى لشاعرنا الكبير الشفاء العاجل.. فإننا على كهولتنا ما زلنا نغني معه ونحلم معه ونسرّح النظر والأمل في الأجيال القادمة التي تربّتْ على أشعاره: بين الجماهير, وبين صفحات الكتب المدرسية للغة العربية.‏

إنه لشيء يدعو إلى الدهشة والاحترام: ألا يتعب هذا الشاعر ولا يتعب صوته من الحداء حتى وإن خانه الجسد!!.. فقلبه ما زال في صبوته العربية الجيّاشة.. وأمله ما زال مستمراً: في أن ذلك الصباح لا بدّ أن يأتي.. وأن تلك الشمس العربية السمراء لا بدّ أن تشرق من جديد وبين حناياها: هذه الملايين الممتدة من الماء إلى الماء.. ليكن فهذا حلم.. ومن نوافل وخلود الأحلام أنها لا تموت!‏

أيها المسؤولون في الحكومات: ذلك الذهب العتيق هو كنز الأمة وجماهيرها وهو بالتالي صوتها الهادر الذي يرفض الموت والفناء... وكل مبدع خلاّق في هذه البلاد هو جزء من صورة الأمة فأدركوهم أو أدركوا ما تبقى منهم لأن الندم بعد ذلك لا يفيد!‏

سليمان العيسى الذي غادرتنا للاستشفاء... نأمل عودتك موفور الصحة.. ونأمل أن يظلّ صوتك الشعري العربي: شاباً لا يشيخ.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية