لم أقل ( شواطئ) دجلة - بل ركزت على ( شواطي) لأنني منذ أن تفتحت مداركي على واقع الاجتثاث من ( سفوح الكرمل) وإلى صحراء ( الشعبية ) ومنها إلى بغداد- بأبي سيفينها أولآً وبشورجتها ثانياً وبمدينة السلام (الطوبجي ثالثاً) , كنت أشعر بنوبات من الحنين المتوجع وأنا استمع إلى (على شواطي دجلة مر, يامنيتي , وقت الفجر) - إلى جانب ( خدري الشاي خدري- عيوني المن أخدره) وصوت شجي وحيد فريد متألم ومؤلم يقول ( الأفندي.. الأفندي- عيوني الأفندني, الله يخلي صبري) (أي صبري هذا لا أحد يعلم بالتحديد) صندوقه من البصرة ولماذا ينفتح الجرح آنذاك لأنني وصلت البصرة- في القطار صحبة والدي نهاية صيف 1948- ومن هناك تم نقلنا إلى ( الشعبية ) المعسكر الذي كان الانكليز قد أخلوه- ربما كانوا يشعرون بذرة من تأنيب الضمير فأخلوا ( الباركسات) ليسكن فيها لاجئون فلسطينيون بدلاً من الخيم - الطريف أن هذه ( الباركسات) - ومنها ما كان مبنياً في باطن الأرض لكي يكون ملجأً مناسباً يحمي القوات الانكليزية التي كانت تحتله- لم تصمد أمام عاصفة صحراوية هوجاء وعنيفة داهمت المنطقة في بداية صيف 1951 - ما اضطر الحكومة العراقية إلى نقل معظم من كانوا في ( الشعبية ) إلى بغداد - وبقي قسم قليل منهم في مدينة البصرة.
بيت القصيد هو المنعرج العجيب للأحداث بحيث صار الحنين في القلوب المتوجعة من الشوق إلى حيفا وإلى الكرمل - إلى عين حوض واجزم وجبع والطيرة وعين غزال والمزار- وبلد الشيخ - حيث مرقد الشهيد الجليل القسام- الفلسطيني - السوري - العربي - المسلم الإنسان المقاتل حتى الشهادة - إلى شوق تتلظى فيه الأفئدة متقبلة على الجمر حتى الاحتراق لمرآى جديد - لرؤية طليقة - خالية من الخوف اللاطئ للإنسان في أي زاوية ومكان في العراق المحتل, لدجلة - على الشواطئ- أبي نؤاس أم الأعظمية- لا فرق - إنه الشاطئ الذي تفتحت على محبته مداركنا, وهو الماء الذي لحس غطى واحتضن أجسادنا الطرية من صغرنا وهو ( الجلاب) الماء القراح ( الجلاب) على أفئدتنا في الزمهرير والقيظ - الماء الذي إليه اليوم يتشوق العراقيون - بعد أن كان يثور ويطوف ويفيض ليغرق المزارع والبساتين والأكواخ والبيوت والأشجار في الخمسيينات من القرن الماضي.
قبل أيام التقيت أصدقاء من العراق - ههنا في دمشق الياسمين - حاضنة العرب , وفرشتهم البسيطة المنبسطة - حاملة دفء الترحاب ومقدمة شعوراً جميلاً محبباً بالأمن والأمان - وفي اللقاء ما دار الحديث وإلا عن الأمن وإلا عن الوطن إلا عن اللوعة وإلا عن وعد بلقاء دجلة - وقد انفتحت فيه ولصقه وعلى شاطئه وعليه أعين العشاق بكل حرية - وعلى ذراعيه تنثال الأماني وكلمات العشق والهوى وقد استندت رؤوس العشاق إليهما كما تستند رؤوس الأطفال إلى أرجل الأمهات وأحضانهن وتحنانهن - وهناك الالتحام ما بين معانيه وكل أحبته - إنه الفرات - إنه دجلة - إنه الرافدان معاً وقد كبل المحتلون قدرات القطرات على التغلغل الطليق في مسامات الأرض والبدن, فما ارتوت الأجساد وما ارتوت الأشجار - وما ارتوى الظامئون وما تم ضخ النسغ إلى حيث الثمار المطلوبة في وطن ( السواد) .
كيف لي ألا أنوح على أديم أرض كانت شهقاتها تنزلق في مداخل أسماعي وعروق وممرات فؤامي ونسيجي كله, تذكرني بأني أحمل (المصيبتين ) دفعة واحدة :
أشواقي المشروعة مع الظمأ إلى سفوح الكرمل - لكي أستطيع أن أعود إلى جذري - والنار المتأججة شوقاً إلى (شواطي ) دجلة - إلى جلسة - حتى في عز حر آب اللهاب - على أقدام مياه دجلة في أبي نؤاس - جلسة نرفع أعيننا إلى حيث سماء صافية لا يطفئه إلا أمل جعلنا نحيا حتى اليوم - نكابد ونعرق ونحيا ونتأمل ولا نفقد الصبر ولا النفس في شهيقه والزفير.. إن أجنحة من اليمين ومن اليسار تطير بنا ما بين النهرين وما بين القضيتين وما بين شواطئ حيفا وشواطي دجلة ومن قاسيون إلى مياه - تشبه ما كانت عليه مياه بردى ذات زمن - إلى أعناق تشرئب مسبحة وهي تشرب صورة الكرمل - بكل سفوحه وألقه وألمه وشجره وصباره وزيتونه وخروبه.. حتى الانفتاح الجريء على حنجرة تغني: الغضب الساطع آت.
أهي دمعة تلك المتحدرة مع الملح نحو زاوية إحدى الشفتين? الرجال أيضاً يبكون !! .
nawafabulhaija@yahoo . com