ولكن هل فعلاً التنبؤ هو حقيقة أم إنه وهم؟ في الواقع هناك أحداث مثيرة يشير اليها بعضهم تحت عنوان عريض هو: (موهبة التنبؤ) تقع لهم أو لغيرهم دون أن يعرفوا القناة التي تصل بين عالم الواقع وعالم المستقبل الذي تشغل تلك الأحداث المتوقعة حيزاً منه. والملاحظ في الآونة الأخيرة تزايد عدد المتنبئين الذين يهتمون بهذه العوالم التي يظنون أنها تنكشف لهم من الأحداث الكبرى حتى الأمور الصغرى، وتوسع دوائرهم وبالتالي تزايد أعداد من يتلقفون تلك التنبؤات وكأنها حقائق ستقع لا محالة، وهم يربطون بين ما سمعوه في وقت سابق وما يقع في وقت لاحق. ولعل شغف الناس بالتنبؤ وتكريسه لأمورهم الصغيرة التي تتحقق أو لا تتحقق هو السبب في هذا الانتشار إضافة الى وسائل الاتصالات التي ساعدت على ذلك بما فيها الإعلام.
يبقى السؤال الذي يطرح نفسه بقوة في هذا المجال أنه: لو صح تنبؤ ما فهل سيأتي مطابقاً لما قيل عنه إنه سيحدث أم إن قوة التأثير تجعل الحدث أقرب لما وصف به؟ أم إنها مهارة فائقة من مهارات الاتصال بحيث يقوم أحدهم بقول ما يريد الآخر سماعه؟ ثم هل تقف التنبؤات عند حدود الجماعات أم إن الشغف بها أكثر حضوراً عند الأفراد؟ بل إن هذا هو الأرجح.
ترى هل ساعدت التكنولوجيا الحديثة من وسائل اتصال، وأدوات طباعة على انتشار ظاهرة تتبع المتنبئين بحيث غدت وكأنها حقيقة يتتبعها الناس بالتنبؤات الجوية، والكوارث الطبيعية فانتشرت الكتب التي تتحدث عن ذلك، وتكاثرت المحطات الفضائية التي تغذي فضول الناس، أو ترسم على الوجوه البسمة مكان الدمعة؟
ربما كانت النبوءة صادقة، أو ربما هو قانون الاحتمالات الذي قد يأتي بما هو متوقع.. أو لعلها لعبة المصادفة التي تلبس شكل النبوءة، ولو أن تاريخ البشرية يعترف بتنبؤات كانت بالفعل حقيقية. ويبقى التنبؤ والتوقع لو صح ملكة وموهبة متفردة يختص بها بعضهم دون غيرهم بما يميزهم ويبث الثقة في نفوسهم.. ويبقى أيضاً أن نعرف هل يستطيع المرء أن يتوقع لنفسه كما يتوقع لغيره؟.. إنه سؤال قد نجد له جواباً وقد لا نجد.
ولعل العلم الحديث في حساباته الدقيقة والمتناهية في الدقة أحياناً هو الذي ساعد على تحقيق النبوءات وصدقها كما في الحروب، وأحوال الأمم والشعوب، وبزوغ نجوم للمشاهير أو اختفائها، وربما الصحة والمرض، والموت والحياة، إذ إن هذه الحسابات التي ذكرنا تساعد كثيراً على توقع حدوث شيء ما يسميه المتنبئون موهبة خارقة منهم لا يملكها غيرهم، علماً أن أكثرهم مطلع جيد، وجامع لمعلومات أجود، وذكي قوي الملاحظة، وملتقط بارع للأخبار من هنا وهناك، وإذ يخزنها جميعاً في عقله الباطن تظهر على لسانه كنبوءة إذا ما وقعت ذاع اسمه، وربما طار صيته، وخضع الناس له، والتمسوا التقرب منه.
وإذا كانت التنبؤات تأتي لصاحبها من مكان مجهول في الأثير، أو في الدماغ فإنه لا يزال أمام العلم مراحل كثيرة قبل أن يعرف السر الحقيقي وراءها. أما الآن فالتنبؤ لم يعد ظاهرة مقطوعة عما حولها من علوم وأحداث ووسائل تواصل كما كان الحال عند المنقطعين للتنبؤ في المعابد ورؤوس الجبال، لكنه على أي حال يظل ظاهرة تستدعي الاهتمام.
ونستطيع أن نعتبر هذه الظاهرة وكأنها قراءة في دفتر الزمن تتاح لأناس دون غيرهم ممن يلتقطون الإشارات والحروف لهذه القراءة فيصوغونها على أنها التنبؤ.