فكيف إذا كان الشاعر هو ابن الشام مناضلاً من أجلها وعلماً من أعلامها له في تاريخها الثقافي بصمات باقية إنه الشاعر خير الدين الزركلي صاحب موسوعة الأعلام وهي الأشهر في تاريخ الموسوعات العربية.
شغف الزركلي بالشام وإن كان قد ابتعد عنها مرات ومرات وفي شعره محطات لا يمكن للمرء أن يمر بها مرور الكرام.
الباحث المرحوم الدكتور عدنان الخطيب توقف في تأبين الزركلي عند عنوان واسع وعريض جعله تحت اسم دمشق الزركلي يقول الباحث الخطيب في الحديث عن دمشق الزركلي: أحبها وجرى حبها مجرى الدم مالئاً شغاف قلبه رضي به وأقام عليه.
لم تكن له بأم ولكنه شرب لبنها طفلاً ونشأ في أحضانها وعلى أرضها درج.
أحب صحون بيوتها، تحليها أحواض الكباد والليمون وتجملها شقفات زريعة بالزاهر من النبات، يؤرجها الياسمين مساء، فإذا تساقطت أنجمه ضم شتاتها متمتعاً بشميمها ونثرها عبثاً.
أحب أجواء ربيعها، يعطرها النارنج إذا تفتحت أكمامه فإذا أجنى الزهر لملم أزهاره فمن مائه يستخرج عطر يدّخر وإذا عقد سارع إلى التقاط الدحاريج المتساقطة لتتخذ أمه منها دواء تهديه إلى الأمهات من جاراتها وإذا نضجت ثماره انتظر من يصنع منها أطيب حلوى وأسوغ شراب.
ويضيف الخطيب قائلاً: أحب صيفها يكفكف الحرارة فيه، نسيم مر على بحر أو بحرة يتدفق ماء بردى فيها.
أحب خريفها يفرش حقولها وبساتينها ببساط ذهبي من أوراق أشجارها الطيبة.
أحب شتاءها، تتثاقل فيه أغصان الشمشير بحملها من الثلج فإذا سقط عنها تراقصت أوراقها الزاهية واهتزت ريانة نضرة.
أحب دروبها يزين مداخلها باعة الشوندر والحبوب والذرة والصبارة لكل منهم سمته وجرسه وموسمه.
أحب أهلها يتوادون بالزيارات ويتهادون الزهور والطيبات أحب الطيب في قلوبهم والابتسامة على ثغورهم يلقون بها القريب والغريب على حد سواء، أحب الشهامة فيهم والبدار إلى النجدة في خصالهم أحبهم في اطمئنانهم إذا قنعوا وفي ثوراتهم إذا غضبوا وفي مزاجرهم إذا ظلموا.
أحب روعة الجمال إذا طل عليها من ذرا «قاسيون» أحب طبيعتها يتمتع بمشاهدتها من «المنشار» و«الميزان».
أحب «النيربين» من جناتها وما في «النيربين» من ورد وآس وريحان أحب ما فيها من شحارير وعنادل وعصافير، يستمع إليها وهي تغرد ويبثها رجع الألم في ضلوعه.
حنين الشاعر
ويقول الخطيب: أحب الشاعر عصافير الدنيا لأنها تشبه عصافير بلده الحبيب ورآها في «رأس العين» بعيداً عن دمشق فحن إلى عصافير النيربين وتأجج في صدره:
بات يرعى النجم «والنجم» مطلّ
-والجوى يسهر والحب يذلّ
ذكر الشام فأجرى دمعه-
مستهلاً وله في الشام أهل
ياليالي بوادي جلق هل
ترى يتبع منك الوصل وصل؟
وجنان السفح والربوة من-
كان يدري أنني عنك أغلّ
يا عصافير بـ«رأس العين»
ما برحت تهبط نحوي ثم تعلو
خففي من لوعتي شادية
إن في القلب أسى لا يضمحل
ويتذكر دمشق فيكتب قائلاً:
لولا الحنين لما بكيت لياليا كانت دمشق بها تجود وتمنع
لولا الحنين لما بكيت أحبّه كانت تضم دمشق وتجمع
لولا الحنين إلى دمشق وأهلها جفت بمقلتي الشؤون الهمع
لولا الحنين لما بكيت بجلق قمراً يغيب وألف شمس يطلع
لولا الحنين لما غضبت لأمة في الشام ذارفة عليها الأدمع
لله للأيام ما صنعت بها أيدي العداة، وما ستوشك تصنع
لله للأيام ما أبكي لها أنا ذلك المتفجع المتوجع
وتطول بالشاعر غربته وإذا كان اختلاف النهار والليل ينسى فما أنست الأيام شاعرنا وطنه في يوم.
العين بعد فراقها الوطنا لاساكناً ألفت ولا سكنا
ريانة بالدمع أقلقها ألا تحس كرى ولا وسنا
كانت ترى في كل سانحة حسناً وباتت لا ترى حسنا
لو مثلوا لي موطني وثنا لهممت أعبد ذلك الوثنا
ويشاء القدر للخطوب التوالي أن تقرع صفاة الشام وتعجم من عود أبنائها بين حين وحين ويحس الشاعر ما يحس به أهلوها من خطوب.
الأهل أهلي والديار دياري وشعار وادي النيربين شعاري
ما كان من ألم بجلق نازل واري الزناد فزنده بي واري
إن الدم المهراق في جنباتها لدمي وإن شفارها لشفاري
دمعي لما منيت به جار هنا ودمي هناك على ثراها جاري
وحين ييئس بعض الناس ويظنون أن هذه الغمة ستطول وتطول يقول شاعرنا:
وطني طال بكائي والأسى مما عراكا
أترى تصفو سمائي وكما أهوى أراكا
أنا لا أعشق مما عشق الناس سواكا
فيك محياي ومثوى أعظمي تحت ثراكا
ودار الزمن دورته وزحزح الغاصب عن أرض الوطن وكفكف الشاعر ما يتلظى في قلبه من حنين في سبيل انجاز عمل علمي رائد على أنه لم ينس دمشق مع ذلك ولم ينس أحباءه فيها:
ذكرت دمشق والأيام ضاف ظلها فينان
وأردية الصبا جدد وأحلام الهوى ألوان
ليالي الأنس بالأخدان قبل تفرق الأخدان
على بردى وربوته وحول تلاطم الغدران
وبين خمائل النسر يـن والزنبق والريحان
وأندية البيان الحر قائمة على أركان
منابرها، مزاجرها لمن يطغى عن الطغيان