الواقع والتاريخ.. بين تقلبات السياسة وأهواء البشر
شؤون سياسية الأربعاء 22-9-2010م بقلم: د. أحمد الحاج علي هما المصدران المنبعان اللذان لايسطو عليهما الجفاف ولايخضعان لتقلبات السياسة وأهواء الإنسان، إنهما الواقع والتاريخ وكلاهما منطلق الثاني ومصدر تكوينه ومعيار صحته وسلامته والواقع وقائع حية وقوى مؤثرة وحركة تتماوج بهدى وبغير هدى،
وأياً كان هذا الواقع فإن الانطلاق منه والعودة إليه والأمة الحية هي التي ترتاد هذه المسافة ذهاباً وإياباً من الواقع وإليه، وإنما يحدث الخلل السياسي والحضاري حينما يحذف الواقع من التداول والتفاعل وعندها تتشكل لحظة الفراغ ويصبح الأفق مفتوحاً أمام الأهواء الذاتية وهوس السياسة وشرود التقديرات.
إن الواقع مصدر وطريق ودليل شريطة أن نمتلك إرادة وعي الواقع والمقدرة على استثمار جوانبه والتحرك به ومن خلاله نحو الواقع البديل الذي لايملك أحد حق التفريط به حينما يتساوى في هذا الواقع البديل الهدف الواضح والحركة الفاعلة والقدرة على تحويل نقاطه الكبرى إلى محاور للالتقاء والارتقاء معاً.
إنهما المصدران إذاً الواقع والتاريخ، وقد أجرينا محاولة في السطور الماضية لإضاءة تختص بالواقع عبر عناوينه العامة وأما التاريخ فهو ذاكرة الأمة الحية وسجل إيقاعها الحضاري ومصدر الاستمداد لكل ماهو محفز ودافع نحو الثقة بالنفس ونحو بلورة مواقف عربية يكون من شأنها أن تنجز التواصل وأن تنبعث مع كل زمن ومرحلة بالخصائص والسمات المميزة لهذا الزمن ولهذه المرحلة، ومخاطر التاريخ تقترب من مخاطر التسليم بالواقع، فالتاريخ لايجدي إذا لم يكن قوة دفع واندفاع، فليست وظيفته بحد ذاته بل بقدرما ينتج في الأمة من تحريض وتفويض بالإرادة الجديدة والمشوار الحضاري الجديد، إن الحياة البشرية لا تقاد من القبور ولاتزينها النذور ولا ينوب الماضي فيها عن استحقاقات الحاضر والمستقبل، إن المهم في التاريخ هو إدراك نقطتين اثنتين منهما هي أن التاريخ تاريخنا صنعناه وضعنا مخارجه بذاتنا عبر كل الذين رحلوا عن هذه الدنيا حكاماً ومحكومين، وهذا يعني أننا نمتلك مصادر الفعل وانبعاث التجربة القومية والدخول في ساحة العصر وموجباته شريطة أن نتعاطى مع التاريخ بطريقة (سباق الرايات) حيث جرى الأجداد بأقصى سرعتهم وعلينا أن نتسلم منهم الرايات لنجري بأقصى سرعتنا، مستفيدين من خبرة متفتحة وتراكم حيوي وثقة بالنفس تتفوق على القيود والمصاعب والجراح المستوطنة في جسم الأمة، والهزائم التي يتوالد بعضها من بعض، وهكذا نكتشف أن الواقع والتاريخ معاً يشتركان في قواسم عظمى ثلاثة أولها إن الحركة في الواقع والتاريخ هي الأهم واتجاهها دائماً نحو المستقبل، فلا اجترار ولاعبث وكل مرحلة هي مدماك لما يجب أن يأتي من مداميك كثيرة مطلوبة في البناء العربي، وثاني القواسم بينهما هو أن العرب هوية المصدرين معاً أداتهما ومبرر وجودهما، فالواقع على العرب والتاريخ للعرب ومن اجتماع الواقع والتاريخ تتكون مشروعية التحرك إلى الأمام والتمرد على الجمود والاقتراب من الأهداف العليا بدلاً من الاغتراب عنها واستبدالها بوهم الشعارات ماكان منها في التاريخ وماهو مستجد وافد إليها، وأما القاسم الثالث المشترك بين الواقع والتاريخ فهو أنهما معاً حافز القناعة ومعيار الصحوة وقوة الاندفاع ومبرر تخطي حواجز الجمود والاستيلام للنعاس التاريخي الذي كاد أن يملنا وما مله الكثيرون منا، تلك القواسم هي خصائص علمية وعقائدية وعملية ونحن أحوج مانكون إليها في مرحلة قاسية محاصرة ومضغوطة كالتي نمر بها جميعاً، وندرك تماماً أن التجربة تقدم لنا المشروعية والحيثيات معاً ومن ذلك أن موجات الظلام في الوطن العربي لن تهزم مواقع النور ومصادر التمرد على الموت المؤبد، ومنها أن خط التاريخ حينما يفعل ويتفاعل هذا التاريخ يفرض حضوره السياسي كماهو حضوره الجغرافي، وخط التاريخ في الوطن العربي، أعني محور النهوض والبناء في هذا الوطن يمتد من القاهرة إلى القدس إلى دمشق إلى بغداد، وفي حمى هذا الخط تتوضع مراحل وأدوار قديمة ومعاصرة تنتظم الوطن العربي كله، إن هذه المسألة ليست حالة تاريخية فحسب بل هي حالة إدراكية وحاجة ملحة في عناوين الواقع العربي وتفاصيله، وهنا ينهض دور التاريخ ويتقدم الواقع نحو التاريخ لكي يسنده ويدعمه، أي أن الأصل في المنطلق وقوة الفعل العربي إنما تتحرك على هذا الخط المحور كما كان الحال في كل مرحلة تاريخية سابقة والابتعاد عن هذا الخط بالمعنى الفكري والمسلكي هو تفريط بالبواعث والمبررات التي تفترضها منطقية الحال وضرورات المرحلة الراهنة.
|