وأبدوا احتراماً بالغاً لهذه الحضارة ومنجزاتها. ففي كتابها(الجميل والمقدَّس) والذي قام بتحقيقه وترجمته الباحث والكاتب الكويتي عقيل يوسف عبيدان, والذي تتناول فيه الجنينة كشكل من أشكال الجمال بما تمتلئ به من أزهار وأشجار في الحضارة الإسلامية, والحروف- أو ما يسمى بالحروفية في الأدب الإسلامي, والباز الأشهب كأحد اهتمامات ناس الشرق والغرب به كطائر جارح يغلي بالحرية؛ إنَّما تحاول الإحاطة بمفهوم الجمال الذي يخرج من عباءة المقدَّس دون أن يمسَّه أو يثور عليه. فالحديقة /الجنينة هي اختصار للطبيعة ومعرضٌ لبعض مجالاتها وصورها. فلا ريب أنَّ الورود والنرجس والبنفسج والريحان والأقاحي ينظر إليها الفن بمنظاره, ويصنَّف قيمتها الجمالية في مرتبة الرِقَّة واللطف والحلاوة , كما أنه تحت البَسَاطة الظاهرية للحديقة أو الجنينة هناك مفهومٌ معقَّد وملتبس, ذلك أن تناول الحديقة بالتحليل يتطلَّب إلماماً واسعاً بموضوعات شتىَّ كعلم البيان والعمارة الهندسية والفن والفلسفة, بل وحتى التحليل النفسي لارتباطه الوثيق بالذاكرة, ولذلك كانت الحديقة أو الجنينة وستبقى موضوعاً مقتصراً على النخبة المثقَّفة عبر التاريخ, باعتبار أنَّ الفكرة الجمالية والروحية للجنينة قد انبثقت من توليفة تجمع التقاليد والدين والغيبيات التي كانت سائدة في العالم البدائي, وربما كان إنسان الصحراء هو أكثرُ من شعرَ بالحاجة إلى مكانٍ محميٍّ يقيه حرَّ الشمس الحارقة وندرة المياه, وقد كان ذلك المكان حلماً يناقض تماماً عالمه الواقعي الصعب. فالشعراء والأدباء بذلوا جهدهم في أن يخلِّدوا جمال الأزهار بواسطة أبياتهم, والرسامون والجوهرجيون والخطاطون وسواهم من أهل الصنعة والفن فقطفوا أزهاراً من الجنة العليا ووضعوها على جدران الجوامع والمقابر السلطانية, ونسجها النساجون في قماشهم النفيس, وركَّبها الخطاطون بالحروف العربية حتى أوجدوا الخط المسمَّى بالكوفي المزهر, أو وضعوا خط النسخ في بعض الأماكن على نوع من المربَّعات ذات الأزهار والأوراق.
وهذا الخط يقود الباحثة الألمانية أنَّا ماري شيمل للحديث عن التشبيه بالحروف في الأدب الإسلامي ، إذ تعتبر صنعة الكتابة من مميزات الإنسان منذ أقدم العصور, وهناك علاقة بينها وبين التصوير(الرسم). فقد كان الخط في ابتدائه صنعة تصويرية في كثير من الأمم, ولقد كانت صنعة الخط في الشرق الإسلامي أفضل الصنائع وأجلَّها, ولا توجد حضارة في العالم أَوْلَتْ فنَّ الخط مثل هذا الاهتمام. ففي كثير من الكتب المأثورة ما يدل على الدور المهم الذي لعبته الكتابة والخط الذي يسميه عبد الله بن عباس«لسان اليد», وقيل إنَّ الإنسان يمتاز عن سائر أنواع الحيوان بالخط, وإنَّ الخط أعم العلوم وأشرفها, ومن العلوم أنَّ في الروايات إشارات إلى الخط الذي انزله الله تعالى على أنبيائه آدم وأنزل الصحف على الأنبياء مسطورة, وأنزل الألواح على موسى مكتوبة, ويُروى عن النبي (سليمان) أنَّه سأل عفريتاً عن الكلام فقال: ريحٌ لايبقى. قال فما قيده؟ قال:الكتابة.
ولم يزل الخطَّاطون يبدعون أنواعاً من الخطوط ويحسنون هندسة الحروف, أما المتدينون والمتصوفون منهم فاجتهدوا في نسخ القرآن الكريم أحسن النسخ بأظرف خط. ومن المعلوم أنَّ للحروف المقطَّعة في ابتداء السور القرآنية قيمة خاصة في نظر بعض المتصوفة, حتى أنَّ بعضهم اختار «طه» و«يس» أسماء للأولاد, كما أنَّ القرآن الكريم قد ذكر اللوح المحفوظ, والقلم الذي كتب كل ما يصادفه الإنسان وقد جفَّ القلم كما قال الرسول, ولا إمكان لتغيير ما كتبه في الأزل. وذكر الشعراء هذه الواقعة في أبياتهم, شاكين من ظلم القلم, أو مسرورين بأنَّ اسم المحبوب قد رُقِمَ في لوح قلوبهم كما قال فخر الدين أوحد المستوفي الإيراني ويقصد الإمام علي الرضا: من ابتداء الكون رَقمَ قَلمُ القضاء حرف محبَّتك على لوح التراب.
في الفصل الأخير من كتابها تتحدَّث الكاتبة أنَّا ماري شيمل عن الباز/الصقر باعتباره يرمز إلى الروح السامقة والشمس العالية, وإلى المبدأ الروحي, وليس هناك من حضارة لم تضع هذا الطائر في المرتبة العليا من سلَّمِ الموجودات, فهو يرمز إلى الحرف الأوَّل من اللغة الهيروغليفية, وقد عدَّه المصريون القدامى مصدراً لدفء الحياة وجوهراً للضياء الذي ينير العالم. وهو بسبب تحليقه في مفازات السماء البعيدة وقربه من الشمس يُعدُّ رمزاً للهواء والنار والقوَّة-الذكرية؛ التي تمنح الأرض- الأنثى, الخصب والحياة الجديدة.
صادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون/بيروت, ودار مسعى /الكويت.
عدد الصفحات 157 من القطع الكبير.