|
نصــــــف ملـــــغ نيكــــوتين...المســكوت عنــه وجهــاً لوجــه أمـــام المشـــاهد ســــــينما يحاول أن ينتمي إلى السينما الروائية ، وهي محاولة لا تزال بطيئة حيث عرض الفيلم في دار سينما عرضا خاصا بعد تتويجه بثلاث جوائز في مهرجان سينمائي إيطالي الشهر الماضي ، لكن هناك شيء حول انتمائه إلى السينما إذ لا يزال في إطار التقنيات التلفزيونية .
لا نعرف الكثير عن مخرج الفيلم محمد عبد العزيز ، وأعتقد أن فيلم نيكوتين هو العمل الأول الذي يوقعه ، وقد اقتصرت تجاربه السابقة على العمل الإعلاني والتعاون مع بعض المخرجين في أعمال تلفزيونية . ينتمي فيلم نصف ملغ نيكوتين إلى سينما المؤلف أراد المخرج محمد عبد العزيز منه ان يدخل ابواب الفن السينمائي من بابه العريض، لذلك وضع أشياء مثيرة للجدل والنقاش على مستوى المضمون ،كما حاول ان يقدم شيئا جديدا على مستوى الشكل تمثلت في الديكور والتزيينات ،دون ان تشكل صورة سينمائية متينة تضعه في مصاف أصحاب اللغة السينمائية المميزة . كما بدت منه محاولة في عرض الفيلم عبر أسلوب سردي غير تقليدي من خلال تداخل الخيوط الدرامية للشخصيات، لكنها بقيت أيضا دون رابط مقنع. تتنوع الشخصيات في الفيلم ،وتصل إلى درجة التضاد،ويجمعها عنوان واحد هو عالم المهمشين او عالم قاع المدينة وهو عالم غزا مؤخرا الدراما والسينما العربية ،وكأن المجتمع العربي لا يوجد فيه سوى هؤلاء الذين يعيشون بذل واستكانة دون أي محاولة لتغيير واقعهم البائس .
ويمضي المخرج المؤلف في الفيلم إلى أكثر من ذلك عندما يريد ان يضع في واجهة السينما القضايا المسكوت عنها ، أو بكلمة أدق القضايا المثيرة للجانب العام من المجتمع،وتلك التي لم تقترب منها الدراما والسينما العربية ، لنلاحظ مثلا هذه الشخصيات .. صوفي غير متشدد .. طفلة وطفلة شارع .. فتاة عازبة منقبة .. مومس .. رسام شاب مسيحي .. نادل في خمارة . ومشكلة الفيلم انه لامس هذه الشخصيات وحكى عن دواخلها ضمن توليفة ظن انه يستطيع من خلالها ان يبدو وكأنه حقق ما لم يحققه الأوائل ، لكن التشابك بين هذه الشخصيات أوصله إلى مزيج غير متجانس لا يختلف كثيرا عن مزيج ( سمك لبن تمر هندي ) ،وهو يظن انه يصنع نموذجا للعلاقات الحضارية بين هذه النماذج المتباينة ،أما في النتيجة فقد كان اقرب إلى التصورات الذاتية حولها. فالصوفي مثلا لا يصل إلى الصوفية بطريقة فانتازية كالسبب الذي جاء به الفيلم ، وقد ألبسه المخرج ثياب الوجهاء بينما الصوفي على غير تلك الشاكلة ، فهو يدخل عن طريق شيخه الذي يلبسه الخرقة الصوفية التي تنتهي بذؤابة تتدلى خلف الرقبة، وحمله المخرج فوق ما يحتمل عندما أجرى على لسانه أقوالا من علماء الكلام وهم على نقيض الصوفية الموجودة في يومنا هذا وهم بعيدون كل البعد الآن عن المهاترات في هذه المسألة، مثل قوله المثبت في البروشور(الإنسان فهمه مقصور على الصفات لا يتعداها ،والصفات محدودة بالأين .. أما الحقيقة فلا أين لها ). ومسألة الأين هذه نقطة خلاف كبيرة بين علماء الكلام والعقائد الذين خاضوا في مسألة الأين والكيف والصفات الشبيهة بالبشر،لم يكن من المناسب ان تمر في الفيلم مرور الكلام . أما علاقة المنقبة بالرسام فهي ثغرة درامية قبل ان تكون فكرية ، فمن يعرف هؤلاء عن كثب، يجد في هذه العلاقة غرائبية مفرطة ،وغير قابلة للتصديق ، ربما من الناحية الافتراضية قد تحدث ، لكن من غير المناسب أن يفترض أحدهم تصرفات وأحلام بائسة كتلك التي رأيناها في الفيلم. أما النقطة القاتلة في الفيلم ، فهي المسألة التربوية، وهي مسألة غير قابلة للاجتهاد واستعراض العضلات الفنية ، لنلاحظ مثلا كمية ( النيكوتين ) الموجودة في الفيلم دون حساب عند أبطالها الزوج المخدوع .. المومس ، ويمكن ان نتقبلها من هذين ، لكن لا يمكن تقبلها من طفل على وشك دخول عالم الكبار ، أكثر من ذلك تلك العلاقة التي قامت بين طفل الشارع ( ماسح الأحذية ) وبين المومس . وبمثل هذه المعالجة غير الواعية لم نستطع ان ندخل إلى العوالم المسكوت عنها في الدراما كنقطات تنويرية ،بل ما حدث أنها دخلت في نفق مظلم لم تعرف كيف تخرج منه . تبقى الشكلانية المفرطة التي أضفاها المخرج على فيلمه بمناسبة وغير مناسبة ، ودون وظيفة درامية، الحارات .. الطيور المعلبات الفارغة ، فجاءت على شكل جماليات بلا معنى وهي مستقاة من بعض الأفلام السوفيتية وتحديدا أفلام بارادجانوف،ولكنها هنا في نيكوتين كانت مقحمة بلا هدف.
|