تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الكتابات الخارقة للواقع «الهورلا» لموباسان أنموذجاً

ملحق ثقافي
2017/11/21
د. عبد الهادي صالحة

تهدف هذه الدراسة إلى إلقاء الضوء على جانب مهم من جوانب الإبداع القصصي عند الكاتب الفرنسي غي دوموباسان، الذي يعتبر من أبرز ممثلي المذهب الواقعي الطبيعي لا بل أكثرهم واقعية،

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

بيد أنه رغم اغترافه من الواقعية الطبيعية فقد مال إلى اللاواقع وشغف في التعبير عنه، لا بل اشتط في رسمه وتصويره، وسخر قسماً كبيراً من قصصه لتصوير هذا اللاواقع المطبوع بروح الخوف والتشاؤم والقنوط واليأس؛ حيث تتوق نفسه إلى التحرر من عالم الواقع وإلى الهروب من عالم المنطق والعقل والانضباط وإلى إطلاق سراح الخيال.. ولقد وصل هذا العشق للتحرر من كل ما هو واقعي أو عقلي إلى حد اهتمامه بالجنون وبالأمراض العقلية والارتماء في أحضان الغيبوبة وفقدان الوعي والشعور والهذيان والهلوسة.‏‏‏‏

كتابات موباسان النظرية الخارقة للواقع‏‏‏‏

من «اليد المسلوخة la main decorche «، النشر الأول لموباسان، إلى «من يعرف qui sait « في 1890، لم يتوقف موباسان أبداً عن كتابة قصص خارقة للواقع، لا بل إنه درس «الخارق للواقع» (1) بشكل عام،‏‏‏

في بضع صفحات موجزة وعميقة. كما عرض لنا موباسان أفكاره عن الخارق للواقع في قصة «الخوف» في عام 1882 و 1884 وفي مقالات ثلاث، أهمها تحت عنوان «الخارق للواقع».. ترتبط مؤلفات موباسان الخارقة للواقع أكثر من أي إنتاج أخر بجذورها بالتربة الغنية لحياته الشخصية، ويبدو الخارق للواقع عنده مرتبطاً بالجنون وباختلال العقل مثل عقل مهزوم تتناهبه تمثيلات وتصورات لا يستطيع السيطرة عليها... إن مؤلفاته تعبر أفضل من أي مؤلف آخر عن تصوراتها ودوافعها ورعبها. كان موباسان يتمتع بحساسية شديدة تختبئ بشكل دقيق تحت مظهر اللامبالاة، وحتى تحت القسوة، وفي وسط الملذات، يظهر لديه حزن مفاجئ وهيجان عصبي دون سبب وتشاؤم عند كل محنة..‏‏‏‏

منذ 1880 أخذ موباسان يعاني من اضطرابات بصرية. وفي العام التالي، فقد بصره لساعات.. هذه الآلام كانت تترافق مع آلام عصبية مؤلمة لم يستطع التخلص منها، وكان الدواء الوحيد هو الأثير الذي يتبعه إحساس بالسعادة العميقة والنشاط الذهني الكثيف واللذيذ، إنه «الإحساس الغريب والساحر بالفراغ» الذي يحسه في كل جسده، جسد يصبح خفيفاً، كما لو أنه «يتبخر» من الداخل، هذا النوع من «التبخر» الخاص،‏‏‏

يصبح له بسرعة غير محتمل. وعلى الرغم من العزاء العابر الذي يسببه الأثير، كان ينتاب موباسان أكثر فأكثر شعور عميق بالقلق.. كان لديه انطباع بأنه ملاحق. وعندما كان ينظر إلى نفسه طويلاً في المرآة لم يكن يتعرف على صورته. كان موباسان يحب الماء ويفضله على العناصر الأخرى. ويضاف إلى ذلك تصورات حلم، في قصة «الهورلا»، أيضاً، تحت سلطان كائن غير منظور، وكذلك تحت تأثير مخدرات، يشعر الراوي بتصورات: يرى «فراشة كبيرة مثل مئة كون.. يذهب من نجمة إلى أخرى، وهو يرطبها ويعطرها بالنفس المتناسق والخفيف لجريانه!». ولكن هذه الرؤية الرائعة، بعد أن سحرت البطل، فإنها ترهبه. ومنذ 1882، أخذ يصاب بنوبات هلوسة وبتوهم رؤية الذات، كانت تتكرر في 1887: «كلما عدت إلى منزلي، رأيت قريني».‏‏‏‏

في الحقيقة، تنتمي قصص موباسان الخارقة للواقع في الواقع جميعها ماعدا «للبيع»، و»النائمة lendormeuse « و»الإنسان القادم من كوكب مارس» إلى مجال الحلم أكثر مما تنتمي إلى مجال الكابوس.‏‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

هناك في قصص موباسان الخارقة للواقع بساطة مدهشة للموضوع: الإلهام يولد من تجربة ذاتية، وعوضاً عن أن يعالج موباسان الخارق للواقع كما لو أنه أتى من عالم خارجي وغريب، يبرزه ويخرجه لنا في فضاء مألوف وداخلي، وهو فضاء الوعي الذي هدمه الجنون، كما يظهر لنا جلياً في قصة «الهورلا»(1887) والتي هي موضوع دراستنا(5). يتصف الخارق للواقع عنده بثلاث ميزات أساسية: يستند الخارق للواقع عنده أولاً على الواقع، ويتميز الخارق للواقع بتدخل السر في إطار الحياة الواقعية (6) يتناول الخارق للواقع ثانياً قصصاً بسيطة وساذجة تأتي من «براعة عالمه» وتغرق القارئ في الشك.. أما الميزة الثالثة فهي - حسب موباسان- كما يراها الكاتب الأمريكي لوفكرافت(7) تحالفه مع الخوف. يشدد موباسان في مواضع متعددة على هذه النقطة.. هذا الخوف ليس نقص شجاعة أمام خطر حقيقي، ولكنه شعور غريب وقوي أمام خطر غير مفهوم يهاجم الكائن بأكمله ويفتت قواه الحية.. يحتل الخوف،‏‏‏

هذا المكون الأساسي والجوهري للخارق للواقع الذي يرافق الجنون ولا ينفصل عنه مكاناً مميزاً في مؤلفات موباسان.. هذا الانجذاب الرهيب لـ»الخوف من الواقع»، «الخوف الغامض من اللامرئي، الخوف من المجهول» (8) هذا الخوف ذاته الذي يصيبنا برعشات قلق وهلع – تعبر عنه بدقة شخصية من شخصيات حكاية «الخوف» بشكل أفضل: «عندما أخرج ليلاً، كم أرغب بالارتعاش من هذا القلق الذي يجعل النساء العجوزات يرسمن إشارة الصليب على صدورهن على طول جدران المقابر، ويدفع إلى الهرب أمام الأبخرة الغريبة والأوهاج العجيبة المتصاعدة من المستنقعات».‏‏‏‏

لعب موباسان دوراً أساسياً في تجديد الفانتاستيك، وظهر من خلال مقاربته لهذا الجنس كاتباً حداثياً وخصوصاً في قصصه الأخيرة؛ حيث يقارب اللاعقلاني دون شرح أو تفسير، وكما لو أن الأمر يجري تقريباً من تلقاء ذاته.. وهكذا بدا موباسان قريباً من كتاب العبث الذين يصورون اليوم عالماً مفككاً لا يحكمه ضابط أو قانون.. ويمكن القول إن معظم حكاياه الخارقة للواقع هي حكايا قلق نفسي وكرب وجودي، ليس فقط القلق العرضي الذي يشعر به المريض أمام حدث لا يفسر، ولكنه قلق وجودي عميق.. إنه قلق أمام سر الحياة والموت. تعتبر قصة «الهورلا»(1887)، التي نتخذها أنموذجاً من أكثر القصص إيلاماً وسحراً وجاذبية؛ حيث تصور مأساة الهلع من الرعب الذي لا يتغذى من ظواهر خارجية، ولكن من قلق مرتبط بالهشاشة النفسية للكائن البشري يبرزه ويخرجه لنا موباسان في فضاء مألوف وداخلي يعتبره جحيماً، وهو فضاء الوعي الذي هدمه الجنون كما يظهر لنا جلياً في هذه القصة؛ حيث يستمد روحه وغذاءه من الدوافع الباطنية العميقة (الانحراف والشذوذ الجنسي وغريزة القوة في «مجنون؟» والتيمية في «الجمة»). ولكن القصص التي سبقت «الهورلا» وحضرتها ومهدت لها الطريق نوعاً ما، هي سلسلة قصص مرتبطة برابط موضوعاتي واضح في «الخوف» في عام1885 حيث يقبل موباسان فرضية وجود اللامنظور، اللامرئي الذي تغوص فيه مجموع الحياة الإنسانية، ويعتبر الإنسان لعبة في أيدي قوى غامضة ينكشف وجودها في الحوادث الغريبة.‏‏‏‏

تسرد لنا قصة «الخوف» تجربة تراجيدية للخوف حيث يتساءل القاص: «لماذا نخاف؟» «ماذا تخبئ هذه المعتقدات والخرافات والمفهوم مافوق الطبيعي للعالم؟» ويستفيد الكاتب من كل هذا ليبرر مجموعة من الأفكار المتأثرة بالحنين لقرن فنتازي وخيالي وجمالي. زد على ذلك فإن نزعته العلمية الواثقة في بداياته فسحت المجال شيئاً فشيئاً لموقف أكثر تمييزاً حيث يظهر تأثير أفكار منتشرة رائجة ترتبط بالخفي: إذا كان العلم يحمل لنا نتائج أكيدة، فإنه لا يمكن أن يضيء سوى جزء من الواقع، ذلك الجزء الذي يقابل اتساع وامتداد حواسنا. ولكن تظل «الهورلا» هذه الدرة المتفردة في عقد موباسان في هذا الشأن الأكثر شهرة.‏‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

العنوان‏‏‏‏

«الهورلا Le Horla « هو اسم منحوت من مقطعين «Hors» التي تشير إلى الخارج، والبعيد عن الناس، بينما» «La تشير إلى المكان القريب.. وتصف توتراً بين القريب المجاور وبين البعيد المنال.. أطلق موباسان هذا الاسم الذي لا يحيل دلالياً أو مورفولوجياً إلى أي شيء محدد أو معروف على كائن خفي لامنظور.. إنه يمثل كائناً لا يخاف التقهقر، ولا الانحلال، ولا التدمير.. لا يمكن إدراكه بواسطة الحواس كاملة، فهو شفاف ذو جسد مجهول، وروح وشبح.. وجوده ثابت يعلن عنه من خلال ظواهر خارقة للواقع..‏‏‏‏

الموضوع‏‏‏‏

تروى القصة التي يجري حدثها في زمننا المعاصر على شكل يوميات خاصة والتي تؤرخ بشكل محدد(من 8 أيار حتى 10 أيلول) ولكنه حدث ذو فجوات، وبدقة مزيفة، ولا يوجد إشارة للسنة... بطلها إنسان عطال وميسور الحال وسعيد ولكنه مختل عقلياً يشهد بشكل مرعب غزو فكره من قبل استيهام ازدواجية الشخصية.. يسجل هذا الشخص المقتنع تماماً بأن كائناً غير منظور وقوي يسكنه، كائناً شريراً يجرده من إرادته، يسجل لنا اضطراباته وأحلامه وأدق حركاته ليفهم ما يحدث له وليدفع وليطرد بعيداً عنه هذا الهاجس.. يبدأ السارد بالحكي عن شعوره بخطر يحدق به.. ومن شدة فزعه، يحلم كل ليلة بكابوس، حيث يرى كائناً يأتي لخنقه.. الشيء الذي يدفع به إلى البحث عن علاج له في الطب والسفر.. وعندما يعود إلى بيته يعاوده الكابوس المرعب ثانية.. فيتأكد السارد بأن الكائن الفنتاستيكي يشرب الماء والحليب أثناء نومه المضطرب والمتقطع.. يقوم السارد بزيارات إلى باريس تساهم في نسيان هذه الكوابيس والهلوسات، ويحضر عشاء عند ابنة عمه حيث يتعرف على الدكتور بارانت، وهو اختصاصي في التنويم المغناطيسي.. هذا الأخير يعلن أن الاكتشافات العلمية الجديدة ستدمر – حسب رأيه- الاعتقادات بالخوارق! ولإظهار براعته، يخضع الدكتور بارانت قريبته لتجربة التنويم المغناطيسي، ويطلب منها أن تقرض قريبها مالاً في صباح الغد، ويوقظها بعد ذلك.. تنفذ القريبة الأمر في صبيحة الغد.. وكان لزاماً تدخل الدكتور بارانت لإلغاء التنويم. هذه التجربة خلخلت السارد، الذي بدأ يبحث عن المتعة خارج بيته الذي يعود إليه ويظن أنه شفي من هلوساته.. لكن أثناء تجوله في حديقة منزله، يرى ولأول مرة أن الكائن الخارق يصبح شيئاً مرئياً.. حيث يرى يداً خفية تقطف الورود.. يمتلئ قلبه فزعاً لهذا المنظر.. فالسارد أخذ يحس شيئاً فشيئاً أن الكائن الخفي يضيق عليه ويحبسه، فيفرض عليه إرادته ورغباته، ويمتص كل طاقته.. ولدى قراءته لمقال علمي حول الظواهر التبعية الجماعية بالبرازيل، يعتقد السارد أن الهورلا جاء على متن سفينة شوهدت على نهر السين منذ ثلاثة أشهر.. فيخطط لتدمير هذا الكائن، فيحرق منزله وبداخله الخدم..‏‏‏‏

منذ السطور الأولى للقصة التي تبدأ بمشهد وصفي/ سردي يمهد لإحداث دخول الكائن يحيلنا المؤلف إلى العالم الداخلي: مستوى السرد الذاتي ويتمثل في ضمير المتكلم المباشر.. مشاهد سردية لا ينتظمها سياق زمني ولا سياق مكاني. فهي حكاية شخصية منعزلة يغزوها كائن غير منظور. فالعلاقة بين الحكاية التي يستند عليها الراوي والقص المروي هي علاقة تقاطع كما هي في العلاقة الزمنية بين القصة والحكاية المروية كما أشار (جنيت). فأحداث ابنة عمه ورحلاته جزء من النسيج القصصي الذي اعتمد عليه الراوي وهو جزء مكمل لسرده الخاص في تراتب أحداث القصة وتصعيدها سواء بتراتب زمني أو مكاني بالنسبة إلى مركز أو بؤرة الأحداث المروية. هذا الاعتراف أو التحليل الذاتي لحالة جنون و/ أو استلاب من قبل قوة خارجية عن الراوي وشريرة، تضع أمامنا قصة ذات إلهام خارق للواقع لا يمكن فصلها عن مناخ نهاية عصر منقسم بين الوضعية المنتصرة، والتي ترتكز انتصاراتها الفلسفية على التقدمات المدهشة للعلم الحديث، وعودة قوية لكل المكبوت اللاعقلاني (موجة المدنية للمغنطة والإخفائية والثيوصوفية ولعلم الفلك والباطنية «ترافقت مع حركة الإحياء المسيحي (...) وارتبط رفض العالم الصناعي مع ردة الفعل ضد هذه الوضعية»(10).‏‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

«الهورلا» والقرين‏‏‏‏

إن أهم المواضيع الرئيسية التي تميز عالم موباسان الخارق للواقع: ازدواجية الشخصية، استقلالية الأغراض، وغياب الركائز الزمكانية. أجمع كتاب السيرة الذاتية لموباسان أنه كان يصاب بهلوسات يرى من خلالها قرينه. وموضوع القرين هو في طور التكوين في قصة «على الماء» و»مجنون؟» يقول موباسان: «الأنا المقدامة عندي تسخر من الأنا الجبانة، ولم يحدث لي كما حدث ذلك اليوم حيث لم أدرك التناقض بين الكائنين القابعين داخلي، أحدهما كان يريد، والآخر كان يصمد»(11)..»أمتلك قوة فظيعة، ربما نستطيع القول إن كائناً أخر مسجون داخلي، ويريد باستمرار الهروب (...) نحن اثنان حلا في جسدي المسكين، إنه هو، هذا الآخر، الذي غالباً ما يكون الأقوى، مثل هذا المساء» (12). ولكن في «رسالة مجنون»، و»الهورلا» يأخذ هذا الكائن بعده الحقيقي: «كائن غير منظور» وهو يتعلق بالوحش أو مثل في «الهورلا»، يتعلق في الوقت ذاته بمصاص الدماء، وبالشبح، وبالقادم من كوكب آخر - يجسد الآخر، يعني ذلك الكائن ذاته الذي يهدد هوية البطل وهو يبحث عن الحلول مكانه - وبشكل خاص، يريد أن يسرق منه صورته. هذه الذات الأخرى/ هذا الهو الآخر (أو على الأقل، هذا الآخر الذي يريد الاستيلاء على ذاته، والذي يكتشفه راوي «الهورلا» أمام مرآته) يشكل، حسب رأي ماكس مولر جزءاً «من بنية الوجوه الأبوية وذلك بقوة انتمائه إلى جنس كائنات أعلى مقاماً وقوة تتلاعب بمصير الجنس البشري»؛ وهذا لا يبقى دون نتيجة إذا تذكرنا أن البطل وجد ملجأ أمومياً في بيته: «لا يمكن للعلاقة الثنائية مع الأم، مع خطر الابتلاع الذي تحمله، لا يمكن لهذه العلاقة أن تنقطع بشكل سعيد إلا بالالتحاق باسم الأب، الذي يدخل الطفل في نظام اللغة والقانون. ولكن الهورلا لا يحمل اسماً (...) والصورة الأبوية هي مكان فارغ، وبهذا الفراغ يشعر البطل نفسه مهدداً» (13) هذا الفراغ هو الذي سيلتهم ظله...‏‏‏‏

إن موضوع عجز الحواس الإنسانية وإمكانية عيش تجربة حسية عالية تدفع وتثير الشخصيات الرئيسية عند موباسان لإعداد نظرية ترمي إلى البرهنة على ظهور كيانات غير منظورة.. وبالتدريج وبشكل منهجي، يتمكن موباسان في كتاباته من إيصال القارئ إلى الإيمان بوجود كائنات غير واقعية وشريرة: «لماذا، كيف يحدث هذا؟ هل يعرف المرء السبب؟ ولكن ماذا يعرف المرء؟ كل شيء غامض. نحن لا نتواصل مع الأشياء إلا بواسطة حواسنا البائسة، الناقصة، العاجزة، الضعيفة جداً لدرجة أنها بالكاد تمتلك القوة للتثبت مما يجري حولنا(14) «حقيقة على الأرض، خطأ في مكان أبعد، أستنتج من هذا أن الأسرار التي نستشفها مثل الكهرباء، والتنويم المغناطيسي، وإنفاذ الإرادة، والإيحاء، كل هذه الظواهر المغناطيسية لم تعد خافية علينا، إلا لأن الطبيعة لم تهبنا، لم تزودنا بالعضو، أو بالأعضاء الضرورية لنفهمها» (15)‏‏‏‏

تخضع قصة «الهورلا» بشكل دقيق لقواعد صارمة ومحددة، وتجدر الإشارة أن القصة الخارقة للواقع ليست نتاجاً هوسياً لعقل مريض، ولكن نتيجة عمل معقد انطلاقاً من مخطط معين ومحدد الذي يمثل هذا الجنس الأدبي. إن فروض القصة الخارقة للواقع هي كذلك لدرجة أنه يستحيل أن يوجد تصادف ما بين العناصر العميقة التي تتكون منها هذه القصص وبين الاضطرابات المحتملة لكاتبها. ولهذا السبب يصمم بعض النقاد الكبار على رفض مقولة أن «الهورلا» هي تمثيل وتصوير لحالة سريرية وخصوصاً أن موباسان تابع بجد دروس الطبيب شاركو في مشفى السالبيترير مثابراً في 1886 و 1887 حول الهستيريا، والتي كان الناس في الأوساط الباريسية المستنيرة كثيراً بدأوا بالعلم بأبحاث فرويد وعلماء نفس آخرين من فيينا، وهذه الأبحاث لم توضع مع ذلك في متناول الجميع إلا في وقت لاحق جداً؛ وبتخليه عن الشكل التقليدي للقصة أصبح موباسان أحد أساتذة الخارق للواقع الحديث. كان موباسان يدمج هذه التجارب في كتاباته، كما أنه استفاد من تجاربه الخاصة، وعمل على توظيفها، مثل جنون أخيه الأصغر (هيرني)، واضطرابه العقلي.‏‏‏‏

لقد مسرح موباسان في «الهورلا» كما في العديد من حكاياه، شخصاً مجنوناً، ومن المعلوم أنه هو نفسه أصيب باضطرابات ذهنية ومات في الظروف التي تحدثنا عنها، إذا ربما يصف لنا ويمثل ويصور جنونه الخاص به بما لا يقبل الجدل والشك.. واهتم مثل معظم معاصريه بالتطورات العلمية، وخصوصاً في مجال التحليل النفسي. وتجدر الإشارة إلى أن الكتاب الطبيعيين أولوا جانباً واسعاً من مؤلفاتهم لتحليل حالات سريرية. ويجوز لنا أن نقول إن هذه القصة تشكل خرقاً لقواعد التصوير الواقعي الأكثر بدائية، أو لتمثيل عصاب صاعق الذي ربما يشكل حالة فريدة في حوليات التحليل النفسي.‏‏‏‏

الهوامش‏‏‏‏

‏Le Gaulois - octobre- 1883 1-‏‏‏‏

‏2- Maupassant، « A une inconnue «، 1890، cite par A.Lumbroso، Souvenirs sur Maupassnt(Slatkine،1981،p.223)‏‏‏‏

‏- 3-Maupassant، « Sur leau «، Albin Michel، 1954-P.85‏‏‏‏

‏.4- Gaston Bachelard،» Leau et les reves»، Josi Corti. 1942- p.9‏‏‏‏

‏Maupassnt،» Le Horla»، edition presentee par Andre Fermigier، Gallimard، 1986 5 -‏‏‏‏

‏ 6- p. g.castex –le conte fantastique en France de Nodier a Maupassant j.corti، 1951،p.8)‏‏‏‏

‏7-H.P.Lovecraft،Epouvante et surnaturel en literature (traduction de B.De Costa.Paris،1969 -‏‏‏‏

‏8- Maupassant،» la Peur، Apparition»،Gallimard Flammarion، p.98‏‏‏‏

‏9- Maupassant،»Contes de la becasse.Preface de J.Chessex.Commentaires et notes de L. Forestier.‏‏‏‏

‏- Jean Yves Tadie،» Introduction a la vie litteraire du xix siecle، Bordas،1984،p.118 10-‏‏‏‏

‏11- Maupassant،» La Maison Tellier «، preface، commentaries et notes de P.Wald – Lasowski،p.8‏‏‏‏

‏12- Maupassant،» la Peur، Apparition»،ibid، p.112‏‏‏‏

‏- Max Milner، « La Fantasmagorie»، P.U.F.1982، pp.113-114 13‏‏‏‏

‏Maupassant، « Un fou ?، Apparition «، Gallimard، Flammmarion، p.1112 14-‏‏‏‏

‏15- Maupassant،» Lettre dun fou «، Le Horla « Gallimard، Flammarion، p. 38‏‏‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية