إنّه منفى شامل، يخوض الإنسان في لججه المتفاوتة الأبعاد والأعماق، وهو مستغرق في لعبة التوهان دون البحث عن مخرج أو عن ضوء في نهاية النفق.
إنّه عالم الأنفاق المتشعبة، المتقاطعة لا توجد فيه دروب متوازية، تيه متعدد المداخل والدروب المتشابكة، يمتد أفقياً وعمقياً في الزمان والمكان، ويمضي الإنسان فيه بلا هدف.
إنّه عالم يخلو من الشاعرية، منفى جحيمي بلا أفق. عالم واقعي أكثر من اللزوم، لا مكان فيه للخيال الشاعري، ولا للأمل، بل كل شيء فيه يتحرك بلا إرادة ذاتية متروكاً للتدافع، للزحام، للفوضى الشاملة.. عالم التوترات، تندحر فيه الذاكرة كما يندحر العقل ويندحر الإنسان. كل شيء في هذا التيه يتقدم على أنه أهم من هذا الكائن الضائع في قلب الخضم، والذي تتقاذفه الأقدار دون أن يكون له أدنى دور في المضي عبر المعابر الضيقة في هذا التيه.
-2-
في زمن مضى كان العقل سيّداً، وربما إلهاً، لكنَّ العقل يبدو قد انسحب دون أن يخطر أحداً، انسحب من ساحات الوغى، وأبى أن ينحشر في المتاهات، انسحب من الثقافة لتغدو ثقافة تيه بواجهات ميدوزية.
عالِـم الاجتماع الفرنسي جورج بالاندييه ألّف كتاباً بعنوان: «في الطريق إلى القرن الواحد والعشرين»- التيه. يتحدث فيه عن تيه الأفراد والجماعات وأننا في هذا القرن الذي يُختزل بالتيه سنظل محاصرين بالخوف والقلق. وإذا كانت المتاهة هي «وطن المتشككين» وحقل اللايقين الشاسع، فالمتاهة جزئية صغيرة في شمولية التيه العام هذا...
وإذا كان للمتاهة من متعة جمالية أو شعرية ما، كما يزعم «بورخس» وجدها في القصص الشرقية، في ألف ليلة وليلة ووصفها (بجمالية المتاهة) وراودها كسرد متنامٍ، متناسل أو تعبير عن تكاثر الحكايات..
إلا أن، لا جمالية في التيه البشري، ولا حكايات كاملة إنها نثرات متشظية أو متقافزة على السطح. إنّه عالم جحود وقلق واضطراب دائم لا يستكين إلا ليضطرم كالسعير.
-3-
مع وجود العِلْم وطوفان المكتشفات والتقنيات المتطورة إلا أنها كلها تدفع بنا إلى التيه وتدفع بالتيه إلى الاتساع، يغدو تيهاً وأتوناً في الآن نفسه. وكما يقول بالاندييه: «إنَّ هذا العلم الذي يتقدم ليس له اليقين ولا الضمان اللذان كانا للعلم القديم، فلم يعد «العلم»، يجرؤ على التأكيد بأنَّ الكون خالٍ من اللغزية. إنه يُسلّم بأن بناءاته للواقع يمكن أن تكون قابلة للنقض، وأن آثاره يمكن أن تكون فاسدة».
في عالم التيه لا شيء أسطع من الغموض واللغز والأحجيات المستغلقة أو غير القابلة للحل.
في زمننا هذا، السلعة تتورّم، لتحلَّ محلَّ الشعر والجمال، ومحل الآلهة القديمة، إنها وثنية جديدة، كما يقولون، لكنها خالية من الجماليات، حسيّة إلى درجة الصلف والغثيان.
يتحدثون عن صنمية السلعة، والعالم في حالة عبودية لها، يلهث للحصول على هذه «النيرفانا» الجديدة الأحدث والأكثر بريقاً والأبرع ترويجاً. ومن المفارقات الهزلية أن السلعة صارت هوية وانتماء ولذة في هذا المنفى الكوني، حيث يتشوّه كلُّ شيء أو يموت. إذ يموت الجوهري في تاريخ الفكر؛ يموت المعنى والشعر والإنسان والتاريخ في عالم من الأحابيل والتلاعب متعدد الجنسيات.. «المؤسسة الدينية تتشوّه والقوى المتعالية حكم عليها بمزيد من الإبعاد والنسيان».
-4-
النسيان، من مستلزمات التيه أيضاً، الذاكرة لا مكان لها... ولا حاجة لتذكر الماضي أو الاستغراق في بطولاته أو استحضاره إلا بمقدار ما يُحتاج إليه في خدمة التيه... والمستقبل أيضاً، التفكير فيه موضع تندر، لا استشراف ولا يوتوبيا بل توقعات تنجيمية على إيقاع الانبهار في نهاية كل عام!.. والكتاب الأكثر قراءة في العالم اليوم هو نبوءات نوسترداموس..
إنّه الدوران في المكان حتى تنفتح الأبواب المغلقة للغز المتاهة من تلقاء ذاتها.
أليس هذا جحيماً أرضياً، لم تبشر به الديانات ولا العقائد، بل دفع به صنّاع المتاهة عن الفردوس أو الفراديس الموعودة ومتناهية الصلاحية؟!
لكن، من هم زبانية هذا الجحيم الإمبريالي، وما هو موقعهم، وهل هم سعداء بما يفعلون؟ أم أنهم أيضاً ضحايا التيه والفخاخ التي نصبوها في متاهاته الواحد تلو الآخر؟ وهل هم أشرار أم مجرد لاعبين يلهون في سراديب الكون؟ ولماذا توضع المتفجرات عند كل عتبة أو معبر؟! لعلهم سعداء لصناعة الموت الشقي الذي يُعدُّ للبشر (الأمم والجماعات والأفراد)، وخلف كلِّ موت، لغزٌّ سياسي، وأحجية جديدة متعددة الأوجه، فظيعة ووحشية في الفتك والتدمير... وبلا ندم.
-5-
من أحاجي وألغاز هذا العالم القائم أنه لا ينفك يتحدث عن الحرية والسلام والاستقرار الدولي، وحرية التجارة، وحقوق الإنسان، ومحاربة الإرهاب... إلخ.
ويعني العكس دائماً، فالكلمات مشحونة بالتوريات والأضداد؛ فالحرية هي العبودية، والسلام هو الحرب المباشرة والمقنّعة، والاستقرار يعني الفوضى (الخلاّقة) وحرية التجارة تتضمن حصاراً محكماً للشعوب وللدول الفقيرة وقطع الغذاء والدواء عنها.. وحقوق الإنسان تعني حقوق العملاء فقط، ومحاربة الإرهاب تعني نشر الإرهاب وتحويله إلى أسطورة جديدة.
عالَم يدّعي أنه يُعنى بسعادة الفرد وحريته وتقديم الرفاه للناس، ولكن في حقيقة الأمر على كل فرد أن يلهث في طريقه إلى الموت ضاحكاً أمام الكاميرات، وكلُّ فرد قبل أن يموت «يجد نفسه أكثر حرية في أن يتاجر بقيمه ومعتقداته» عليه أن يتفرغ من هذه المحمولات ثقيلة الدم والقديمة. و«بوسع الفرد أن يجعل كل شيء عقيدة، وبهذا يضاعف الموضوعات التي يتجلى فيها ويتجدّد، محوّلاً بذلك العالم إلى أصنام تتكاثر في قوى غامضة».
وكل شيء يقود إلى عبودية طوعيّة أو قسريّة للأشياء، والتصرفات كلها تقود إلى متاهات الوهم.
-6-
عالم المتاهة، تتقدّم فيه الفوضى لتذيب النظام أو تقوّضه أو تكتسحه، فيه تتقاطع السطحية مع التعقيد، والانبساط مع الانقباض، والغبطة البلهاء مع النكبات والكوارث. واقع متاهيٌّ «يوهن التعقيد العزم على أيِّ استخدام لمنطق سليم، وفيه تكون المعالم ملتبسة، فيه يبحث الإنسان عن الإشارات التي عساها أن تُعلّم مساره».
الهوّة تتسع في قلب التيه، والهوة بين الإنسان والعالم التي لا يمكن عبورها، أطلق عليها ألبير كامو: «العبث». هنا الشرُّ طليق، والأشرار هم الذين يضعون القوانين، يرتكبون الجرائم ويحاكمون الضحايا، يفرضون شرائعهم التافهة، ويجنّدون مرتزقة الثقافة والإعلام للترويج لما هو قائم على أنه واقع ومعطى طبيعي لا تمكن مقاومته.. وعلى أنه سعادة.
وعلى مرتزقتهم أن يهزؤوا من رموز الثقافة الأصيلة والتشكيك بحقيقتها.. وسخّروا لهم الإعلام والمنابر والمنتديات ومراكز البحوث، وبات كلُّ شيء يهتف للزيف وللتفاهة وللأشياء الممسوكة والمسيطر عليها وعلى عبيدها عبر آلية الاتصال «الاتصال الذي يمسك بالموجودات والأشياء». ولعلَّ المفارقة العظمى، تتكشف في الألعاب الضوئية والإعلانية المبهرة التي يُعَدُّ هذا العصر الكهربائي الإلكتروني سخيّاً بها. في زمن الإنارات الساطعة والكتابات الضوئية، زمن الشاشات والإضاءات، كل شيء مهدد بأن يكون أكثر عتامة بمقدار ما يبدو غارقاً في النور!..
الفوضى هي القانون في هذا التيه.
-7-
لا جمالية في حالة التيه، بل ضياع، ولا يقين، وتفكك.. العالم يتشظى بين العودة إلى الماضي أو النظر إلى الأمام دون التحقق أين يضع الإنسان قدمه وما هي الخطوة التالية؟ هل ستكون إلى الهاوية أم مجرد انزلاق بسيط أم نجاة من شباك وأفخاخ غير معروف أيضاً من الذي نصبها؟ هل نصبها الإنسان لنفسه أم نصبتها له الشياطين؟!
لكن، طالما كان ثمة بداية أو بوابة للدخول، كما في لعبة التيه، لابدَّ من نهاية أو مخرج، والأمر يعود إلى شدة الإحكام وحياكة وتشعب دروب المتاهة.. وإلى مركز الضوء البعيد أو القريب في نهاية النفق.. لابدّ، أن يكون اللغز قابلاً للحل، وللعبة نهاية محتمة، والفائز أو العابر سواء أكان فرداً أم شعباً أو أمة له شرف العبور أو قطع الحواجز أو الخروج بلا نصر أو هزيمة... وهذه هي جائزته التاريخية!...
-8-
تُقدّم الأسطورة الإغريقية القديمة متاهة جمالية بحكايتها ورمزيتها التي ترمز إلى الخروج من العتمة والظلام إلى النور، ومن السجن إلى الحرية تقول: «إن أريان» ابنة ملك جزيرة كريت، أحبت بطلاً تصدّى لمهمة قتل المونيتور الذي هو جسد إنسان برأس ثور، وكان عليه أن يلج المتاهة التي يقطنها الوحش، وإنّ أريان أعطته بكرة خيط يتدلى خلفه لكي يخرج بسلام من المتاهة، ولكي لا يتوه في دهاليزها، وكي يستطيع العودة بعد قتل الوحش.
أمَّا الأسطورة الجديدة، المنزاحة عن الأصل الكلاسيكي. المونيتور هو إله المتاهة الجديدة، يهزم الإنسان المعاصر أساطيره القديمة كلّها، ونغدو نحن البشر جميعاً ضحايا هذا الوحش الكوني.
المونيتور، بكل قصة «منزل أشتريون» لبورخيس صاحب كتاب: «المرايا والمتاهات» وقصة برج بابل المتاهي. متاهة بورخيس، ولا يمكن الحديث عن المتاهة دون ذكره، متاهة جمالية. يرى محمد أبو العطا مترجم كتابه «الألف»: «أن الحياة عند بورخيس متاهة. وفي قلب المتاهة ثمة دائماً سرٌّ ومنزل طفولة، ممراته ودهاليزه المتاهية، بأركانه المظلمة ومراياه المخيفة هو الحيّز المرعب الذي استوحى منه وصف مدينة الخالدين في قصته «الخالد» كما أنَّ الحجرة الدائرية في القصة نفسها التي لها تسعة أبواب تمثل بطن الأم والأبواب التسعة تمثل شهور الحمل، الباب التاسع وحده لا يعود إلى الحجرة نفسها، والحجرة ساكنة إلا من صوت الريح والماء، والطريق إلى الخارج يكون عن طريق فتحة في السقف ترى عبرها السماء الزرقاء».
إذاً، هي متاهة جمالية بورخيسية، وسبقه إلى ترسيخ المتاهة الجمالية إدغار آلان بو، هذه المتاهة الجمالية على نقيض مع التيه الوضعي. وعند بو رخيس المتاهة كما في ألف ليلة وليلة، سحريّة، طفولية وشرقية بامتياز، حيث الخيال البكر، المنسرح، ومتعة الحكاية في كونها مخرج أو طريق خلاص، وحيث التناسل الحكائي حكايات تولَدُ من حكاية، وتتكاثر، وحيث المرايا تحيل دائماً إلى «اكتشاف ما يتخفّى».
-9-
في المتاهة القديمة، الجمالية، يوجد للإنسان مخرج، وهو بطل قادر على أن يصرع الوحش (المونيتور) ويعود مستهدياً بخيط أريان، خيط الحب.
أمّا المتاهة المعاصرة، فهي محكمة الإغلاق، والإنسان فيها في تيه يصعب الخروج منه، وخيط أريان مقطوع، والوحش قد استفحل، وهو يسرح ويمرح، أكثر نهماً، في دهاليز المتاهة، يصطاد ضحاياه بمتعة وربح دائم. وفي مواجهة هذه المتاهة الشرهة، وللتخفيف من وطأتها يستلزم حضور البصيرة، والتيقظ، والوثوب فوق الحواجز وتشغيل الذكاء في الحدود القصوى. منعاً من الانهيار داخل الدهاليز، ولإبطال مفعول فخاخ التيه والتغلب على القمة.