ومزج في حواره المسرحي النثر بالشعر بالموشحات، واقتبس النماذج الشعرية من التراث العربي الأصيل لتكون أسلوباً تربوياً تعليمياً مؤثراً في الجمهور، ويلخص رؤيته للمسرح بقوله: «فيه من الحكم البالغة والأبيات الدافعة ما يطلق اللسان، ويشجع الجبان، ويصفي الأذهان».
و(أبو الخليل القباني) كان عنوان الكتاب الشهري لليافعة الذي تصدره الهيئة العامة السورية للكتاب ضمن سلسلة «أعلام ومبدعون»، وهو من تأليف: هناء أبو أسعد.
تاريخ المسرح في سورية
ابتدأت المؤلفة حديثها عن أبي خليل القباني بحوارية جميلة عقدتها بين الطفل (سامر) وجده الذي أخذ يروي لحفيده بأقصوصة جميلة حكاية القباني مفتتحها بالحديث عن تاريخ المسرح في سورية، هذا المسرح الذي عرفه السوريون منذ ما يزيد على ثلاثة آلاف عام، وأكبر دليل على ذلك ما وجد من مدرجات خلّدت الملاحم التي أحياها السوري القديم لسنين طوال، وما اكتُشف من قصص وملاحم وأناشيد منقوشة على ألواح طينية كانت تُغنى في طقس تمثيلي لآلهة الخصب.
بعدها ينتقل الجد بحفيده وبنا للحديث عن أنواع المسرح مبتدئاً بمسرح خيال الظل الذي يقال إنه نشأ في اليونان والهند والصين في الألف الأول قبل الميلاد قبل نشوء المسرح وانتقل بعدها إلى البلدان العربية، ومن شخصياته الشهيرة (كراكوز وعيواظ)، ويعد هذا النوع من المسرح من أكثر أنواع الفنون الشعبية قرباً من المسرح الحديث كونه يعرض صوراً من الحياة، فيها العديد من الشخصيات التي يقف من ورائها عدد من الممثلين المحترفين. ثم صندوق الدنيا النوع الثاني من المسرح، فالحكواتي الذي يعد شكلاً من أشكال الفرجة الشعبية، ينصب خيمته في مقاهي دمشق الشعبية، ويعرض حكاياته ذات الأنماط والحبكات الدرامية المرنة بالارتجال مع جمهور المشاهدين، وبرز كظاهرة قوية في بلاد الشام، زمن الاحتلال العثماني للبلاد العربية. ومما لا شك فيه أن هذه الفنون الشعبية قد هيأت العقول والحواس للإقبال على فن التمثيل.
أبو خليل القباني
وفي انعطافة جميلة ينتقل الجد بحفيده وبنا في سيرورة قصته للتعريف بأبي خليل القباني وهو أحمد بن محمد آغا بن حسين آغا الملقب بالقباني، ولد في دمشق عام 1833 من أسرة دمشقية عريقة، تعلم القراءة ومبادئ العلوم في أحد الكتاتيب، ثم انتقل إلى إحدى المدارس الابتدائية، كان والده يريده أن يكون متعلماً مثقفاً، فأخذه إلى الجامع الأموي الكبير، ولم يمضِ وقت طويل، حتى ذاع صيته بذكائه النادر، وصوته الساحر، وعندما شعر بميل إلى الفن، دعا أصدقاءه إلى دار أبيه في (باب سريجة) وبدأ يغني لهم.
حين رآه أبوه يرقص ويغني طرده من المنزل، إلا أنه لم يتردد في متابعة ما عزم عليه في سره، من العمل في المسرح وفنونه، فبدأ يغني كلما دعي إلى حفل، وفي وقت لاحق استأجر قطعة أرض، وراح يمرن رفاقه من هواة التمثيل، لتقديم رواية «عائدة» التي بشرت بولادة مسرح القباني في دمشق، وبعدها توالت عروضه المسرحية.
لاقى مسرحه استحساناً وإقبالاً كبيرين، وحقق نجاحاً كبيراً، فقد جمعت مسرحياته بين جزالة الألفاظ وعذوبتها، ورقة المعاني ودقتها، إلى أن كتب مسرحية (أبو الحسن المغفل) التي قوضت مسرحه، فقد ثار المشايخ عليه، لظهور هارون الرشيد على المسرح في صورة أبي الحسن المغفل، فانقض عليه المتربصون، واتهموه «بالبدعة والضلالة»، ووصل الأمر إلى اسطنبول، فصدرت الأوامر من السلطان بإغلاق مسرح القباني، ومنعه من التمثيل، وكان ذلك عام 1880، فقرر السفر إلى مصر.
أبو خليل القباني في مصر
سافر أبو خليل القباني إلى مصر في عام 1884 بصحبة بعض من أفراد فرقته، ومجموعة من العازفين والمنشدين، فكانت بداية مرحلة جديدة وغنية في حياته، فقد استقبلت الصحافة المصرية ولا سيما جريدة «الأهرام» خبر قدومه بكثير من الفرح، معلنة أسماء المسرحيات التي ستمثل وهي: (أنس الجليس - نفح الربا - عفة المحبين - عنترة - ناكر الجميل - الخلّ الوفي) ست مسرحيات تراثية عربية، استطاع القباني تقديمها في مقهى الدانوب، في أول أسبوع منذ قدومه إلى مصر، عبرت عن مدى التزامه بإظهار التراث في صوره المشرقة، وتمسكه بمفردات رسالته المسرحية، كما أظهرت نجاحه في تحقيق هدفه، بعدها انتقلت عروض القباني إلى مسرح زيزينيا، أمل الفرق المسرحية في الإسكندرية مضيفاً إلى رصيده عملين جديدين هما: (الأمير محمود وزهر الرياض - الشيخ وضاح ومصباح وقوت الأرواح).
في منتصف تشرين الثاني من عام 1884 انتقل القباني إلى القاهرة، واستأجر مسرح (البوليتياما) وبدأت عروضه المسرحية بإقبال جماهيري لا بأس به دفعه إلى تقديم طلب إلى وزير الأشغال العمومية من أجل الترخيص للتمثيل في دار الأوبرا، لكن طلبه رُفض لأن عروض مسرحه لا تتفق مع ما يدعو له الاحتلال الإنكليزي، مما أصابه بالإحباط فعاد إلى سورية. وخلال هذه الفترة ظهرت أول فرقة مسرحية منافسة للقباني وهي فرقة يوسف الخياط، التي استطاعت الهيمنة على الساحة المسرحية في مصر مستغلة غياب القباني.
بعد غياب دام نحو ستة أشهر في سورية عاد القباني مرة ثانية إلى الإسكندرية معيداً مشهد قدومه الأول، بعدها سافر إلى القاهرة عام 1885، وبدأ بعرض مسرحياته التي لاقت نجاحاً كبيراً، مما أثار غيرة الآخرين، فنشرت صحيفة (الزمان) مقالاً هاجمت فيه القباني وفرقته من دون ذكر اسميهما، مع نشرها لمقالة أخرى أشادت فيه بفرقة يوسف الخياط. هنا بدأت خيوط المؤامرة على القباني وفرقته تتكشف، وأمام هذا تفرق أعضاء فرقة القباني، فلم يكن أمامه بد من العودة إلى سورية.
بقي القباني في سورية ثلاث سنوات، وفي عام 1889 عاد إلى مصر بفرقة جديدة، وفي عام 1896 عاد مرة أخرى إلى الإسكندرية ومارس نشاطه المسرحي، بعدها توجه إلى القاهرة وافتتح مسرحه الخاص الجديد في ميدان العتبة الخضراء بمسرحية (الكوكايين) التي شهدت إقبالاً جماهيرياً كبيراً.
كان نجاح القباني في مصر مدعاة للغيرة والحسد، ففي عام 1900 أحرق مسرحه في القاهرة إلا أن رسالته التي تبنتها الفرق المسرحية الأخرى بعد وفاته لم تحترق، فمسرحية (عنترة) استمر عرضها حتى عام 1906 من قبل فرقة إسكندر فرح، وفرقة يوسف خياط.. وغيرهم.
عاد القباني إلى دمشق، وأصيب بالطاعون، وتوفي ودفن في مقبرة العائلة في باب الصغير، عام 1951.
بقي أن نشير بأن الكتاب الشهري لليافعة (أبو خليل القباني) يقع في 43 صفحة من القطع المتوسط.