هل أنا من يروي الآن أم هي؟ في نقطة زمنية محددة، تشكلتْ داخل ذات الكاتبة، ذاتٌ أخرى.. نمت وتطورت رويداً رويداً. مع اقترابها من سن البلوغ، انفصلت عنها وخرجت منها. نصّبت نفسها قاضياً يفتش كل قناعاتها وحقائقها!
-2-
أليست الأجساد حقائب..
أليست الذاكرة عمراً إضافياً نعيشه مرة أخرى كلما عدنا إلى تفاصيله البعيدة؟
كم سيكون عمري الآن، وذاكرتي تجف وتتيبس رويداً رويداً!
هل سيتمكن العلم يوماً من استنساخ ذاكرة شخص ما بكل حمولتها؟ لو فعل ذلك، كم من الحيوات والقصائد والروايات والأفلام والصور ستُخلق من جديد؟!
-3-
إذا كان الجسد يعيش في فضاء الروح- أي أنها تشرق عليه-؟ إن كنتُ قد دخلت النطاق المكهرب للروح، فهل يعني موتي عطلاً في آلتي منعَ استقبال تلك الطاقة؟ هل أحتاج إلى مأخذ كهربائي جديد.. أم إلى قابس آخر؟ أين يذهب كل الوعي الذي تركته خارج القبر؟
لماذا أموت؟
-4-
ممدداً على سرير الأعالي.. ميتٌ نائمٌ.. أو نائمٌ ميت.. وجودٌ يحلم.. أم حلمٌ ينوجد؟
أنابيب ومضخات وأجهزة قياس.. تعاير نبضه، عددها، سرعتها... كلما هبطت المعدلات ارتفع منسوب النيران في الجحيم.. ليبقى الغائب حياً في الغياب!
كلما سألتُ: أينه؟ ما هو؟ كيف يفعل؟ متى يقوم؟
قيل: سؤالك أكبر من مقاسك.
يهتفون: ادخلوا قاعة الانتظار.. قريباً يقوم مسيحٌ... ويأتيكم منتَظرٌ.. قفوا في رتلين منفصلين: رتل للحريم.. ورتل للقوامين... اقطعوا تذاكر السفر إلى الجنان حيث أربعون من مُطفِئات الشبق.
خارج القاعة تسللت إلى غرفة الإنعاش.. قرب سرير في الأعالي.. كان الميت النائم.. النائم ال مات .. بارداً منذ ألفي سبات.
-5-
بين قُلْ.. وكُنْ
أنصبح أنا والإله جاريْن يحترمان حقوق الجوار؟
هأنا أمارس صلاحيات الآلهة.. أقول: شجرة.. فتنتصب أمام عين الخيال وارفةً!
أقول: مطر.. فتهطل حباته غزيرة شهية أستمتع بموسيقاها على زجاج نوافذي!
أنا حفيدة «مردوك» تنازلت لي الآلهة عن أسمائها الخمسين.
-6-
الوصية: بقايا ذاتٍ ترفض الرحيل وترك عنان فرس القيادة.
أنانية فردية زائدة تمارس الحياة عن بعد.. محاولة التحكم بما لم يعد بمقدورها أن تتحكم به.
إرادة إنسان أناني قاصر الرؤية عن معرفة أن النهاية والموت جزء جميل من ذروة الحياة.
-7-
منذ طفولتي تسربت إليّ قناعة تقول: الصمت من ذهب!
ألهذا كنتُ ألوذ بالصمت؟
ربما لأن الجميع يتوقعون مني عدم الخطأ! مبكراً أخافوني من الخطأ.. من أي كلمة يجب ألا أقولها، وتأتي في غير مكانها وزمانها..
كان عليّ أن أتمتع بجراب في حلقي ألقي فيه كل الكلام الذي خنقته.. أن أكون أقرب إلى الملائكة.
كنت طفلة كبيرة.. وكان على طفولتي أن تختفي في دهاليز الأعماق.. هكذا بقيتْ تلك الطفلة منفيةً كجنّية يُخشى ظهورها.. وكان عقلي يقصيها ويحاول اغتيالها على الدوام.
لهذا –ربما- كانت طفلتي تفضل الظهور في حالات الغياب الجزئي للعقل.. أي عند الغضب وثورة العصبية التي قد تجتاحني.. لكني سرعان ما كنت أهرب إلى صمتي ووحدتي خشية الإساءة لأحد بكلمة.. فأنا أدرك تماماً عمق ومدى السخط الذي تختزنه تلك الطفلة على كل شيء..
حتى في هذه اللحظات لم أعطِ طفلتي حريتها كاملة.
-8-
الآن أغوص كهذه السمكة الذهبية في حوض مائي.. أصوات الماء المتدحرج على جانبي سمكة الراقصة الإسبانية تعزف سيمفونية ساحرة... أسبح في عرض الأزرق بحرية كاملة.. أحرك كل عضو في جسدي بالطريقة التي أريد.. أشعر بفقدان المركزية الشديدة لعقلي... الأعضاء تتصرف بأوامر ذاتية.. أعوم مستلقية على ظهري والشمس في الأعلى تذيب عسلها في الماء عشقاً.
الطفلة المحبوسة في مجاهيلي العميقة تطرق كل الأبواب.. تحتاج للصراخ.. للجنون.. تحاول التأكد من أن صوتها مازال صالحاً للعمل.. تصرخ وتنتحب فتتمزق الجدران..
لابد أن يستدرج عويلها فضول الآخرين! هل سيظن الجيران أن تلك السيدة الهادئة المتزنة قد مسّها جنٌّ؟ هل يعتقدون أن أحداً ما انتهك بيتها فراحت تولول؟
ماذا ستكون ردة فعلهم وهم يرونها وحيدة وسط غرفتها تصرخ بفرح مجنون!