يعبر عن مدى التطور الكبير والقدرة على التواصل مع الحركة التشكيلية العالمية وكذلك قدرة الفنان التشكيلي السوري على التواصل مع الخارج، وتشكيل منظومته الخاصة، وفق منهجية محلية، حتى وإن واصلت صلاتها بالعالمية، ونهلت منها ما يقوي تجربتها.
______________________________________________
خلال هذا الزمن الطويل، تأثر الفنانون التشكيليون السوريون بالواقع السياسي الذي تعيشه بلادهم والمنطقة والعالم، وأثبتوا من خلال فنهم، أن الفن التشكيلي كان حركة تقدمية، أثرت في الواقع كغيرها من الفنون، وربما أكثر، إذ آثر الفنانون، منذ بداية القرن، نقل الواقع والانخراط في الحركات المقاومة للاحتلال العثماني والاحتلال الفرنسي، ومن ثم وقفوا في وجه العجرفة الغربية وقاوموا وأدانوا زرع الكيان الصهيوني في أرض فلسطين، واستخدموا قوتهم اللونية والفكرية في التعبير عن آلامهم أثناء العدوان الثلاثي على مصر وأثناء نكسة 1967.
,جد الفنانون أنفسهم محملين بطاقة تعبيرية تمكنهم من التعبير عن ما يجول في دواخلهم، وقاموا باستخدام معارفهم الفنية والجمالية والتقنية، في تحليل الواقع، كل حسب قدرته وطريقته الفنية. وكان الرواد الأوائل في بداية القرن أنموذجاً للطريق الفني الوطني الحقيقي. ولمعت أسماء كثيرة في سماء العالم، مثبتة أن الفن السوري قادر على الوصول إلى أي مكان من هذه الأرض.
من هؤلاء الفنانين النموذجيين والوطنيين، الفنان سعيد تحسين، الذي ولد في دمشق عام 1904، ودرس الفن دراسة خاصة؛ حيث درس قواعد الفن الأساسية من الكتب والمراجع المتوفرة في ذلك الوقت. أسهم في تأسيس الجمعية العربية للفنون الجميلة ومن ثم أصبح رئيساً لها عام 1942. عمل في تدريس الفن في المدارس الخاصة في دمشق. وبين عامي 1934 و1941 عمل في تدريس مادة التربية الفنية في دار المعلمين في بغداد.
في بداية حياته تأثر سعيد تحسين بالأعمال الشعبية التي كان الناس يرسمونها على قطع القماش والحرير، واعتنى حينها بالواقعية والتفاصيل الدقيقة التي كانت ترسم بها الأشكال على القماش.
وبعد تجربته الخاصة ودراسته للفن من الكتب، تطورت رؤيته الفنية، وبدأ يرسم بشكل مغاير لتلك الواقعية، إذ ضمنها كثيراً من الخيال الفني والأفكار المغايرة. وأثناء دراسته في بغداد، اطلع على الفكر القومي وتأثر به، واطلع على فلسفة أبي العلاء المعري، وقد أوحت له قراءته لرسالة الغفران بلوحة شهيرة لديه بعنوان «الجنة والنار» وهي معروضة في المتحف الوطني بدمشق.
بعد عودته من بغداد إلى دمشق عام 1941، تطورت رؤاه الفنية، واتجهت أفكاره بصدد تحميل الفن رؤى جديدة، وكأنه أراد بذلك أن يقيم عمارة فنية جديدة. وسعى في العام التالي إلى تشكيل الجمعية العربية للفنون الجميلة، بهدف تأسيس نواة فنية تجمع الفنانين، وتنقل الفن من الحالة المتناثرة إلى مجمع فني يلتقي فيه الفنانون، من كل الاتجاهات الفنية. ومن خلال هذه الجمعية يلتقي الفنانون وتنهض الحركة التشكيلية.
اشتعلت ريشته بالألوان المعبرة عن الواقع الناري، فسورية تحت الاحتلال الفرنسي، ويجب على الفنان أن يقاوم هذا الاحتلال، ومن هنا فقد تنوعت موضوعاته بين التاريخي والسياسي والشعبي. رسم لوحة عن حريق المجلس النيابي، وهي تصور إحراق العدو الفرنسي للبرلمان السوري أثناء قصف دمشق عام 1945. ثم رسم لوحة تعبر عن فرح السوريين بعيد الجلاء.
عاد إلى التاريخ العربي، إلى الصفحات المشرقة فيها. رسم المعارك والمواقع التاريخية: اليرموك، ذات الصواري، القادسية، فتح الأندلس. رسم صلاح الدين الأيوبي، في لحظة حاسمة وهي استسلام جيوش الصليبيين للسلطان صلاح الدين في موقعة حطين. إضافة إلى ذلك رسم سعيد لوحات سياسية واجتماعية مثل «شهداء 6 أيار» و«العدوان الثلاثي على مصر» و«ميسلون» و«مباحثات الوحدة بين سورية ومصر»، و«المجاعة في سورية في الحرب العالمية الأولى» تلك التي رسمها تحت تأثير مشاهداته عندما كان فتى صغيراً، وهي تحمل كثيراً من الألم لمشاهدها؛ حيث بدا شخوص اللوحة وكأنهم على حافة الموت، وقد داهمهم شبح الموت وارتسم على وجوههم.
وأفرد سعيد تحسين مكاناً كبيراً في فنه للموضوعات الشعبية، وهو من أوائل الفنانين الذين اهتموا بالمظاهر الشعبية ونقلوها إلى لوحاتهم بدقة وواقعية. رسم «عرس في دمشق» و»الدبكة» و»المضافة» و»عرس في قرية» وغيرها من الموضوعات، ببراعة ودقة هائلة، مظهراً فيها تعابير وانفعالات الشخوص.
الميزة الخاصة
كان سعيد تحسين غزير الإنتاج في شتى المواضيع التي تناولها، وقد نفذ ما يقارب 2500 بين لوحة ورسم ودراسة. وهو عدد كبير، وخصوصاً إذا كان بالنوعية والجدية التي نفذها بها الفنان؛ حيث لا نجد لوحة مشغولة بلا هدف، أو أنها مشغولة بسرعة. ففي لوحته جهد واضح وفكر نير وبراعة فنية بارزة. ففي لوحاته نرى الألم والفرح وتفاصيل الحياة الشعبية والسياسية، ونشعر بفيض وطنيته، وندرك موسوعيته وفلسفته وأفكاره الوجودية. لقد رسم الخير والشر والجنة والنار والعدالة والحرية، وسجل لحظات تاريخية، تنفجر منها زغاريد النصر وأصوات البهجة.
إن الخيال يدخل لوحته، وكأن الخيال هو أمنياته التي أرادها أن تتحقق، ففي لوحة العدوان الثلاثي على مصر، تحضر الملائكة بسيوفها لتشارك مع العرب في قتال الأعداء. إنها مشاعر عربي يقف إلى جانب دولة عربية. وفي استعادته للحظة شنق الوطنيين في 6 أيار، نراه يبعدهم إلى الخلفية، ويقدم أهلهم ويجعلهم بارزين في مقدمة اللوحة، محاولاً أن يبرز مشاعر الفقد والحزن في اللحظة الأخيرة. وهذه الفكرة الفنية، هي فكرة متقدمة على عصرها، لأنها منحت المشاهد تصوراً جديداً يكمن في الباقين على قيد الحياة، وهم الذين سيحملون ألمهم وسيقاومون المحتل.
الواقعية والتسجيلية
كتب الدكتور سامي يوسف جركس عن الفنان سعيد تحسين في كتابه «الجمالية الفنية لحرية النضال التشكيلي الفني في أزمنة الحرب» ما يلي: «ففي القطر العربي السوري تكمن أهمية الفنان الراحل»سعيد تحسين بأسلوبه المتميز بالمدرسة «الواقعية» و»التسجيلية»، واكتسب شهرته منها، والتي ربطت تجربته بالتاريخ العربي وعكست مدى تعلقه بالعروبة. باتت لوحاته تؤرخ للأحداث الهامة في التاريخ الحديث ومن القضايا التي كانت تشغله دوماً «الخير و الشر» و»الحرية» و»الاستعباد». و أعطى اهتماماً خاصاً للوحات التاريخية المعاصرة، والسياسة الراهنة، وهكذا صور لنا «المجاعة في سورية أثناء الحرب العالمية الأولى» و»شهداء 6 أيار» و»ميسلون» و»الهجوم على المجلس النيابي» و»العدوان الثلاثي على مصر» و»ستعودي يا ابنتي إلى فلسطين». وهنا ندرك أهمية الفنان العربي بالنسبة لحرية النضال الفني التشكيلي في الوطن العربي، وكان أحد الفنانين الذين منحوا وسام الاستحقاق السوري لما قدم لبلاده ومن الذين كرمتهم الدولة في عام 1980 تقديراً لجهوده.
وهو أول من طالب بتأسيس معهد الفنون الجميلة في سوريا. ففي لوحة المجاعة للفنان سعيد تحسين صرخة يطلقها الإنسان لتسمو على الحكاية المروية أو على الخصوصية للجوع المخيف الذي تسكبه النظرة الثابتة على أهوال الحرب و ما تسبب به من عواقب وخيمة من الحرمان والتردي وتداعيات للإنسانية التي حصدت الموت الشامل المحرك للعواطف، ونجد صرخة ألم وحزن تنذر بالاحتضار، وهكذا يضفي كل شيء أقصى قدر من الكثافة على هذا النوع من الألم أو البؤس المتفجر في اللوحة. ويقنعنا الفنان «سعيد تحسين» بمنطق «الواقعية» السليم ويبرر كل شيء أمامنا.... إنه يجسد النقلة النوعـيـة في تاريخ الحـركة الفنية التـشكيلية السورية، من الفن الفطري ذي النفحة المهنية الشعبية، إلى الصيغة الأكاديمية ذات الأبعاد المهنية الدراسية، مستفيداً من وجوده في بغداد (1924) كمدرس للفنون في دار المعلمين مما أتاح له تمثيل الروح القومية العربية التي كانت تجد لها فسحة واسعة في تلك الفترة، حيث كانت اللوحة التاريخية والشعبية والسياسية الاجتماعية التحررية هي عناوين بارزة في عموم لوحـاته».
ختام
ليس سهلاً أن تختصر هذه التجربة الفنية الفريدة في بضع أسطر، ومن الصعب أيضاً أن نحيط بفن صاحبها الفنان سعيد تحسين، بسبب تناثر معظم أعماله الفنية في العالم. وإذا أردنا أن نقرأ ما أنتجه في حياته، علينا أن نحيط بجزء وافر من تلك الأعمال، ونقوم بدراسة جديرة به وبتجربته الفريدة والمميزة في التشكيل السوري. إضافة إلى أن قراءته الدقيقة تتطلب من الناقد أو القارئ فهم فلسفته الخاصة والعوامل التي دفعته إلى هذه الفلسفة.
هذا الرائد المتفجر بالألم والمحبة على السواء، يدخل إلى المحترف السوري التشكيلي ويتربع بين نخبته، حاملاً حصيلته الفنية من التجديد لهذا الفن السوري العريق الذي لم ينقطع يوماً في مسيرته الزاخرة بالتجديد والفرادة. ولدراسة هذا الفن علينا ألا نهمل أي فنان رائد، وألا نتوانى عن البحث في هذا التاريخ الفني، مهما كان الثمن.
_____________________________________________
بطاقة
-ولد 1904 في دمشق.
-بين عامي 1925 و1927 فتح في بيروت مدرسة لتعليم الفن في عمارة الغلاييني.
-ساهم في تأسيس الجمعية العربية للفنون الجميلة، ومن ثم أصبح رئيساً لها عام 1942.
-عمل في تدريس الفن في المدارس الخاصة في دمشق.
-بين عامي 1934 و1941 عمل في تدريس مادة التربية في دار المعلمين ببغداد.
-في عام 1941 عاد إلى دمشق وساهم بفعالية في النشاط الفني.
-بين عامي 1962 و1983 أقام في القاهرة وشارك في النشاط الفني فيها.
-عمل في مجال الرسم للمجلات والصحف والكتب المدرسية.
-انتخب عضواً في مجلس السلم العالمي عدة مرات.
-نظم معرضاً لأعماله في صالة إيبلا للفنون في عام 1984.
-منح وسام الاستحقاق العربي السوري من الدرجة الأولى 1983.
-أعماله مقتناة من قبل وزارة الثقافة السورية/ المتحف الوطني بدمشق/ وضمن مجموعات خاصة.
-توفي عام 1985 في دمشق.