ثمة توقعات بلجوء الإوروبيين إما إلى محاولة إقناعه بوجهات نظرهم أو تجاهله أو الخروج من الاجتماع دون اتفاق، لكن ما عُهد عليه ترامب من حيث تشبّثه بآرائه سيجعل من الصعوبة بمكان التوصل إلى اتفاق معه الأمر الذي يسوق إلى مسلك واحد وهو معارضته فيما ذهب إليه.
يسعى ترامب إلى إلحاق الأذى ببعض الدول التي لا تروق له إذ يتخذ من الضغوط الاقتصادية إلى جانب إطلاق التهديدات العسكرية وسيلة لدفع إيران وفنزويلا نحو الانهيار الاقتصادي، وهو بذات الحين يحاول أيضاً تأخير نمو الصين أو إيقافه من خلال منع دخول الصادرات الصينية إلى الأسواق الأميركية وتقييد بيع التقنيات الأميركية للشركات الصينية واعتبار الصين مضاربة في سوق البورصة.
لقد أصبح من المسلّم به أن ما يتخذه ترامب من إجراءات ليست إلا قرارات شخصية يكتنفها التعنّت ولم تصدر وفقاً لنصوص تشريعية أو مداولات عامة، ومما يلفت النظر أنه بعد مضي 230 سنة على صدور دستور الولايات المتحدة يخضع هذا البلد لحكم الرجل الواحد الذي لا يتورّع عن استبعاد أي شخص يخالفه الرأي، ومن الأدلة على ذلك إبعاد وزير الدفاع السابق الجنرال المتقاعد جيمس ماتيس، ورغم ذلك فإن قلة قليلة من الجمهوريين في الكونغرس أبدوا معارضة لتصرفات زعيمهم.
يساء فهم ترامب على نطاق واسع وينظر إليه باعتباره يقوم بمناورة سياسية ساخرة من أجل إثبات قوّته الشخصية وتحقيق المكاسب المالية، لكن الأمر أكثر خطورة بكثير، ذلك لأن ترامب في واقعه مختل عقلياً ومصاب بجنون العظمة واعتلال عقلي ما يجعله غير قادر على الالتزام بما يقوله والسيطرة على فكره العدائي وكبح أفعاله الأمر الذي يستدعي مجابهته بدلاً من محاولة استرضائه.
وحتى لو تراجع لا يمكن الثقة بادعائه، ومن الأمور التي تؤكد تلك المقولة أنه بعد لقائه الرئيس الصيني يشي جين بينغ وجهاً لوجه في قمة مجموعة العشرين المنعقدة في تموز صرّح عن هدنة في «حربه التجارية» مع الصين لكنه لم يلبث بعد بضعة أسابيع حتى أعلن عن تعريفات جديدة، ذلك الأمر الذي قوبل باعتراضات من قبل كبار مستشاريه، لكنه في الآونة الأخيرة، وجد نفسه مضطراً أمام الهبوط في الأسواق العالمية على التراجع بشكل مؤقت، وبتقديرنا نرى أن عدائه للصين سوف يستمر ما سيهدد اقتصاد أوروبا وأمنها.
يبذل ترامب قصارى جهده لإلحاق الأذى بأي دولة ترفض الرضوخ لمطالبه، ورغم أن الشعب الأميركي ليس بالشعب المتعجرف والمتشائم، لكن بعض مستشاري ترامب من أمثال مستشار الأمن القومي جون بولتون ووزير الخارجية مايك بومبيو يسعون إلى مقاربة تنمّ عن التكبّر والعجرفة تجاه العالم وتضخيم الدور الذي يمكن أن تقوم به الأصولية الدينية كما يدّعي بومبيو.
وفي هذا المضمار، زار بولتون لندن مؤخراً لتشجيع رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون على مغادرة الاتحاد الأوروبي سواء مع صفقة أم من دونها، لكن من الواضح أن كلّاً من ترامب أو بولتون لا يولي أي اهتمام بالمملكة المتحدة بل تتمحور آمالهما على إفشال الاتحاد الأوروبي، لذلك فإن أي قائد يعادي الاتحاد من أمثال جونسون والإيطالي ماتيو سالفيني ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان يعدّ صديقاً لترامب وبولتون وبومبيو.
يتوق ترامب للإطاحة بالنظام الإيراني أيضاً، مستغلاً المشاعر المعادية لإيران التي ترجع إلى ثورة 1979 والذاكرة العالقة في الرأي العام الأميركي بشأن احتجاز الأميركيين كرهائن لدى طهران، ويشاركه في هذا العداء القادة الإسرائيليون والسعوديون الذين يكنّون العداء لقادة إيران.
يعلم الأوروبيون ما ستقود إليه التصرفات الأميركية الساذجة في الشرق الأوسط التي تسبّبت بأزمة الهجرة إلى أوروبا نتيجة الحروب التي قادتها الولايات المتحدة مثل حروب جورج دبليو بوش ضد أفغانستان والعراق، وحروب باراك أوباما ضد ليبيا وسورية حيث كان لواشنطن قصب السبق في تلك المناسبات، لكن أوروبا هي من دفع الثمن الباهظ (رغم أن شعوب الشرق الأوسط دفعت ثمناً أعلى بكثير مما دفعه الآخرون).
في الوقت الراهن، تهدّد حرب ترامب الاقتصادية على إيران بنشوب صراع أوسع، إذ على مرأى ومسمع العالم يحاول الرئيس الأميركي تضييق الخناق على الاقتصاد الإيراني من خلال قطع موارده من النقد الأجنبي عن طريق فرض عقوبات على أي شركة أميركية أو غير أميركية تتعامل مع الدولة إذ تعتبر تلك العقوبات بمثابة حرب على هذا البلد، علماً بأنها تعدّ انتهاكاً لميثاق الأمم المتحدة، ولكون نتائجها تطول السكان المدنيين بشكل مباشر فإن تلك الإجراءات تمثل جريمة ضد الإنسانية ومن المؤسف أن نرى ترامب يتّبع ذات الاستراتيجية ضد الحكومة والشعب الفنزويلي.
مراراً وتكراراً اعترضت أوروبا على العقوبات الأميركية لكونها تمسّ المصالح الأوروبية وتعارض بشكل صريح الاتفاقية النووية مع إيران الموقعة عام 2015 والتي أقرّها مجلس الأمن الدولي بالإجماع، ورغم ذلك، نجد القادة الأوروبيين يتحسّبون من الدخول في تحدٍّ مباشر مع الولايات المتحدة.
بتقديرنا ينبغي على أوروبا مواجهة العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة خارج الحدود الإقليمية وذلك بالتعاون مع الصين والهند وروسيا إذ يمكن بسهولة تنفيذ التعامل التجاري مع إيران باليورو والرنمينبي والروبية والروبل وتجنّب البنوك الأميركية بالإضافة إلى ممارسة التجارة بالنفط مقابل البضائع.
في الواقع، فإن العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة خارج الحدود الإقليمية ليست تهديداً طويل الأمد، وفي حال أصرّت الولايات المتحدة على تنفيذها ضد بقية العالم، فإن الأضرار ستلحق بالاقتصاد الأميركي والدولار وسوق الأوراق المالية ولن يتسنّى للقيادة الأميركية تعويضها.
لذلك فإنه من المحتمل أن يبقى التهديد بفرض العقوبات مجرد تهديد فقط وحتى لو أقدمت الولايات المتحدة على فرض عقوبات على الشركات الأوروبية فبإمكان الاتحاد الأوروبي والصين والهند وروسيا مجابهتها في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي سيعارض السياسات الأميركية.
أما إذا كانت الولايات المتحدة ستستخدم حق النقض ضد قرار مجلس الأمن الذي يعارض العقوبات، فإنه بإمكان الجمعية العامة للأمم المتحدة بأسرها أن تنظر في المسألة بموجب إجراءات «الاتحاد من أجل السلام» ولاسيما أن الأغلبية العظمى من دول الأمم المتحدة والبالغ عددها 193 دولة تشجب تطبيق العقوبات خارج الحدود الإقليمية. وفي نهاية المطاف، فإن زعماء العالم سيعرّضون الأمن الأوروبي والعالمي للخطر في حال الانضمام إلى ترامب في تهديداته التي يوجهها حيال إيران وفنزويلا والصين وغيرها.
لذلك، يجب عليهم أن يدركوا بأن أغلبية الأميركيين يعارضون النرجسية الخبيثة التي يتّسم بها ترامب وسلوكياته العقلية التي نشرت جرائم الكراهية في الولايات المتحدة، ولا ريب بأن معارضة ترامب والدفاع عن الالتزام بالقوانين الدولية بما في ذلك قوانين التجارة الدولية سيمكّن الأوروبيين والأميركيين معاً من إرساء قواعد السلام العالمي وعلاقات الصداقة بين الشعوب عبر الأطلسي.