وما يتصل هذا الشأن بمظاهر كثيرة للتعدي على حقوق الإنسان والأوطان مالم تعد معه شخصيات أوروبية سياسية, أو فكرية قادرة على الصمت, أو الحياد, أو تغطية (إسرائيل).
وبناء عليه أصبحنا نستشعر عند قادة الرأي العام الأوروبي بأن أدواراً غير ما كانت عليه أدوارهم يجب أن تلعب ولم يعد بمصلحة أوروبا أن تجري وراء سياسة (إسرائيل) كما تجري أميركا, وخاصة إدارتها الحالية باعتبار أن المجتمع الدولي قد تفهم الكثير من الطبائع الصهيونية في تعامل الدولة العنصرية, الاحلالية مع من تحتل أرضهم, وتغتصب إرادة تقرير مصيرهم وحقهم في قيام دولتهم الوطنية الحرة, وذات السيادة.
ولعل الزيارات التي يقوم بها المسؤولون في أوروبا للمنطقة تعلن عن رغبة واضحة في الوصول إلى سلام دائم وعادل نسبياً من منظور أن الموقف السياسي الأوروبي لم يحسم بعد قضية الفرق المؤكد بين النضال الوطني التحرري المشروع والارهاب.
وزيارة الرئيس الفرنسي ساركوزي إلى (إسرائيل) مؤخراً قدمت نموذجاً لموقف أوروبي صريح من الاستيطان الذي تقضم به (إسرائىل) أراضي العرب الفلسطينيين, أو العرب السوريين في الجولان المحتل, ويتحول إلى عامل عرقلة كبير في موضوع الوصول إلى السلام المنشود.
وعليه فقد احتوت الكلمة التي ألقاها الرئىس ساركوزي أمام الكنيست الإسرائيلي على نيته المعلنة في أن يكون وسيطاً محتملاً للسلام ولاسيما أن فرنسا سوف تكون على رأس الاتحاد الأوروبي لهذا العام.
وأردف الرئىس ساركوزي في خطابه المذكور: إنه لا يمكن إحلال السلام من دون وقف الاستيطان مشيراً إلى أن ثمة عرضاً قائماً يحظى بدعم العديد من اعضاء الكنيست وينص على إقرار قانون يشجع مستوطني الضفة الغربية على الرحيل مقابل تعويضات, وتوفير سكن لهم في (إسرائيل).
ومع إيجابية الطلب لوقف الاستيطان عاد الرئيس ساركوزي ليعبر عن عدم إمكانية تحقيق السلام إذا لم يقاوم الفلسطينيون أنفسهم الارهاب.
وهنا يتجاهل الرئيس أن الفلسطينيين يقاومون الاحتلال الذي يمثل بدوره ذروة الارهاب, ومن غير المحق أن يوصف النضال التحرري الفلسطيني بالارهاب, ولكن الرئىس يعود ليستدرك أنه لا سلام إلا إذا سمح للفلسطينيين بالتنقل, والعيش بكل بساطة على أرضهم.
كذلك لا يمكن تحقيق السلام من دون حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين, والاعتراف بالقدس عاصمة لدولتين, وضمان حرية الوصول إلى الأماكن المقدسة لجميع الأديان, وهنا حرص الرئيس على أن يشير إلى حق الفلسطينيين في أن يكون لهم دولة يمارسون فيها سيادتهم.
وفي خطابه أعرب الرئىس ساركوزي عن ثقته بأن السلام ممكن,عارضاً بالوقت نفسه مساهمة فرنسا وأوروبا في جهود السلام حيث طلب من مستمعيه أن يعلموا أن في وسعهم الاعتماد على أوروبا لمساعدتهم في التقدم نحو اتفاق نهائي.
وأكد ضرورة الثقة بأوروبا, ورغبتها في مساعدتهم, وأعلن عن استعداد فرنسا لتعبئة خدماتها الدبلوماسية, ومواردها, وجنودها, ومن اللافت أن الرئيس قد ردد بأنه لكي تأمن (إسرائيل) لابد لها من دولة للفلسطينيين تعيش إلى جانبها في المستقبل.
وعندما ننظر فيما احتواه خطاب الرئىس ساركوزي يتبادر لذهننا بادىء ذي بدء أن ضرورات ملحة لواقعية جديدة في فهم قضية الصراع العربي الإسرائىلي, والتعامل على أساس هذا الفهم صارت مسألة واضحة في التوجه الأوروبي, وما المنطق بحقيقة الوجوب بالثقة بالموقف الأوروبي إلا دلالة على أن فهماً مشتركاً أخذ يبرز بين الأوروبيين نحو التوصل لاتفاقات ترضي أطراف الصراع, مع قناعتنا أن الموقف الأميركي لن يترك الأوروبيين يجرون في هذا الموضوع حتى نهاية الشوط.
ومع ذلك أوضح أولمرت -رئيس وزراء العدو المتداعي- أنه لا يثق في وجهات النظر دائماً بشأن كل التفاصيل في إشارة إلى عدم موافقته على الذي طرحه الرئيس ساركوزي حول الاستيطان.
وأعلن نتنياهو -رئيس حزب الليكود- أنه لن يعود إلى خطوط ,1967 ولن ينسحب من هضبة الجولان, وأشار إلى أن نابليون قد وصف اليهود بأنهم الورثة الشرعيون لهذه الأرض, ثم أردف لن نقسم القدس أبداً, مثلما أنه لن يتم تقسيم أي عاصمة أوروبية لأسباب عرقية أو ديمغرافية.
وحين ننظر في أقوال الرئيس ساركوزي, ومحاولته تقديم نفسه بالوسيط المحتمل للسلام, ومن ثم في تأكيده إمكانية المساعدة الأوروبية, وأخيراً في رفض الغطرسة الصهيونية للدور الأوروبي في عملية السلام نستذكر -منذ المبادرة الأميركية للسلام, ومؤتمر مدريد عام 1991 من القرن الماضي-كيف سعت إسرائىل لدى أميركا كي تعزل أوروبا عن عملية السلام بعد أن تم لها تفكك الاتحاد السوفييتي وخروج حليف العرب من الحياض الدولي.
إذاً إن دوراً أوروبياً في حل قضية الشرق الأوسط كما يطلقون هم المصطلح مرفوض منذ مؤتمر مدريد وما تلاه من تفاوض غير مباشر أبعدت فيه إسرائيل -دوماً- أوروبا عن المشاركة في الوصول إلى حل في السلام الذي يرتضي به أطرافه.
ومن الإيجابي أن ترفض إسرائىل دعوة الرئيس ساركوزي حيث تثبت -من جديد- حتى للرئىس الذي اعتبر النضال الوطني ارهاباً حتى يرضيها بأنها لا تحترم رغبة أوروبا, ولا المجتمع الدولي في الوصول إلى أي حل عادل وشامل.
وكل الذي تريده هو أن تصل إلى ظروف -من خلال الدعم الأميركي غير المحدود- تفرض فيها إرادتها على أهل المنطقة, وسكانها الأصليين, وتبقي على احتلالها للأراضي التي تحتلها إن لم تكن لديها القدرة على احتلال أرض جديدة غيرها.
هذا هو المنظور الصهيوني المتغطرس لكل جهد باتجاه أي حل يأتي إسرائىل ولو من أصدقائها.
وكما كانت تؤكد عليه سياسة سورية -زمن القائد الخالد حافظ الأسد, وفي ظل قيادة السيد الرئىس بشار الأسد اليوم- أن إسرائيل لا يمكن الوثوق بها- في أي عملية تفاوض- إلا إذا أعلنت لدى وسطاء التفاوض غير المباشر بأنها مستعدة للخروج من الأرض, والقبول بقاعدة الأرض مقابل السلام.
وهي حتى هذه اللحظة تناور, وتداور, وتورط أميركا في سياساتها المتغطرسة, وهذا ما واجهت به الرئىس ساركوزي الذي لابد له أن يجري مراجعة بعد زيارته, وتكون الصلة مع العرب فيها إقراراً بحقهم بالنضال الوطني التحرري المشروع, وأن الارهاب قضية لاصقة بإسرائيل منذ تأسيسها عام 1948 حتى اليوم.