ولأن العلم في الصغر كالنقش على الحجر, فكل ما يتعلق ببذل الغالي والنفيس,
والتضحية بالأرواح والدماء من أجل الوطن, فقد أصبحت هذه جميعها مسلمات منقوشة في الخلايا والأعصاب والقلب والفعل والروح, ترافق الشخص حتى الممات.
مرات كثيرة كنت أتساءل عن الوطن, هل هو الأرض, التراب, السماء, الأفراد, السلطة, القوانين, النظام, الحدود الإقليمية, الناتج القومي, المرافق الخاصة والعامة؟ ومن أجل ماذا يقدم الواحد منا روحه فداءً له؟.
بعض الشعراء يمزجون بين الحبيبة والوطن, ويخاطبون الحبيبة بمصطلح: أنت وطني, وبروحي أفديك يا أغلى ما لدي, فهذا العاشق المتيم يعد حبيبته أن يقدم روحه فداءً لها إذا ما تعرضت للاعتداء من بعض الزعران, لكن هذا الأمر أي الاعتداء لا يحصل إلا نادراً.
فماذا يقدم هذا المحب أيام السلم؟ هل يتغزل بها, ولا يتوانى أن يسرق من جزدانها المبلغ الذي تخبئه لشراء بلوزة وجوز كلسات؟ هل يتفرج عليها إذا أصيبت بالحمى المالطية أو فقر الدم أو انفلونزا الطيور؟ هل يبتزها لتصرف عليه أموالها؟ هل يتحايل عليها لتذهب معه إلى الكاتب بالعدل لتعطيه وكالة عامة ليتصرف بعدها بالشقة السكنية التي تملكها؟ هل يمزق كتبها ليحول بينها وبين العلم والمعرفة والتقدم ليحافظ على عقلها محصناً بالجهل وعصياً على فيروس التنوير؟ فكيف لكائن كهذا أن يدعي الحب والتضحية؟.
رحم الله أساتذتنا وأهالينا فقد غرسوا فينا حب الوطن دون أن يعطونا عنه إلا بعض التعريفات, ومنها أنه الأم الحنون, فإذا كان كذلك , فكيف لا يتساوى كل الأبناء في الحياة الحرة والعيش الكريم؟ وكيف للوطن أن يغرق كل نعمائه على بعض أبنائه ويحرم الآخرين كل شيء؟.
يروى عن أحد الصحابة قوله: (ما دخل فقير بيت غني إلا وخرج ساخطاً) فهل يمكننا ومن أجل المعاصرة أن نقول: (ما دخل فقير بيت غني إلا وخرج ساخطاً على الوطن) ولكن أي جاحد وعاق ينسى دروس مدرسته الأولى أن حب الوطن من الإيمان, وأن معصية الوطن من معصية الله؟.
أولا نتساءل أن من أثرى على حساب الوطن, وامتص خيراته, ومن يقف ضد تقدمه وازدهاره, ثم يقول: إنه يفتدي الوطن بروحه ودمائه, فهل يستطيع أن يقنع أحداً وهو مثقل بالمعاصي, حتى ولو ردد مقولته تلك خمس مرات في اليوم.