من خلال الاشارة إلى الاختلالات الوظيفية التي تواجهها الديمقراطية كمفهوم وكآلية تطبيق سواء على الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية أو الثقافية, وتستفيض المؤلفة في استعراض الاختلالات التي تلحق بالديناميكية الديمقراطية وتعوق تطور ما تسميه ب ( المؤسسات الحاضنة للحريات والمساواة) وتنطلق المؤلفة في البداية من الديمقراطية الفرنسية متسائلة عن أسسها وراصدة لحالتها.
ولكن قبل أن تنفذ إلى دراسة الديمقراطية الفرنسية والاخطار التي قد تصيبها بالترهل والشيخوخة, قامت المؤلفة بدراسة الأسس النظرية للديمقراطية والأفكار التي قادت اليها عبر التاريخ, حيث اوغلت كثيرا في الماضي فتارة نجدها تهتم بالافلاطونية الجديدة عند العرب في اشارتها لنظرية الإشراق عند - السهروردي - وتارة اخرى نجدها تجري مقارنة بين الافلاطونية عند الفرس والأوروبيين, لكن رغم استغراقها في القضايا الفلسفية الا انها تعتمد على خلفيتها الفلسفية لتقديم تحليل معمق عن العلاقة بين الغرب الأوروبي والشرق الاسلامي لتخلص إلى كيفية تعامل الجمهورية الفرنسية مع المسلمين الذين فوق اراضيها آخذة في الاعتبار الانتماء الثقافي والحضاري لكل فئة وكيفية فهمه لمفهوم الديمقراطية.
تقول المؤلفة أن يتحول مجتمع ما تنظمه الحقوق وخاضع للقانون, إلى جسم سياسي هو أمر بديهي يدخل في اطار صيرورة انتقال المجتمعات من حال الطبيعة إلى حال الثقافة, وقد انتبه الفلاسفة إلى هذا النوع من التحول والتبدل منذ ايام افلاطون الذي كان اول من ميز بين الطابع الاجتماعي للمجتمع في مرحلته المتطورة وطابعه الطبيعي في التجمعات البدائية غير المنظمة او غير الخاضعة لقانون يضبط شؤون المجتمع وينظم العلاقات بين افراده على أساس تراتبي وقد شبه الفلاسفة القدماء الدولة بالانسان الفرد.
واعتبروا أن بنيتها من بنية الإنسان نفسه حيث يأتي في مرتبة الرأس الذي يمثل العقل بالنسبة للإنسان طبقة الفلاسفة والحكماء من ذوي العقل الراجح والمقدرة الفكرية على إدارة شؤون الناس وتولي الحكم, وفي مرتبة الصدر الذي يختزن الشجاعة تأتي طبقة المحاربين التي تكلف بالدفاع عن الوطن, ثم يأتي البطن وهو موضع الشهوات حيث يقابلها السواد الأعظم من الشعب وبالطريقة نفسها التي نصف فيها الأشخاص على أنهم اما منساقون لهواهم وشهواتهم غير مبالين بالعواقب, او اصحاب عقل يحكمون على الأمور بميزان الحكمة فإن الدولة تنطبق عليها نفس الأوصاف فتكون إما خاضعة لعناصر عقلانية في شكلها الارستقراطي او في شكلها التوسعي عندما يتولى المتشددون والطائشون الحكم او في شكلها الشعبي حيث الجميع يشارك في الحكم من خلال النظام الديمقراطي.
لكن هناك من الفلاسفة من نظر إلى الدولة في بعدها التاريخي وتطورها الزمني عاقدا الشبه بين الحياة الإنسانية وحياة الدولة فالدولة حسب هذا الرأي تمر بنفس الأطوار من طفولة ومراهقة إلى نضج ورجولة من مرحلة الملكيات المستبدة إلى مرحلة النضج التي تتجاوز فيها الدول الملكيات إلى جمهوريات شعبية يتحرر فيها الفرد من تسلط النظام السياسي ليعانق الديمقراطية والعلمانية, غير أن هذه الصيرورة في حياة الدول والمجتمعات التي كثيرا ما شبهت بتطور الإنسان ذاته لا تتخذ في كل الأحوال منحى تصاعديا باتجاه التقدم في مسيرة وضعت خطواتها مسبقا بل تتعرض تلك المسيرة للعديد من الهزات تجعل الدول عاجزة عن الاستمرار, وما تؤكده المؤلفة أن الأنظمة الديمقراطية تشهد في بعض الأحيان نكوصا إلى الوراء وارتدادا عن المبادىء التي قامت عليها في مراحل تأسيسها الأولى.
وكما أن الجسم الإنساني معرض للعلل والأمراض فإن الدول والأنظمة حتى تلك التي وصلت إلى ذروة تطورها كما هو الحال بالنسبة للنظم الديمقراطية تصيبها الأمراض وتتعرض للتقهقر والجمود ما قد يقوض مبادئها.
ولعل أهم ما تنبهت اليه المؤلفة في الكتاب هو الاختلافات الموجودة بين الديمقراطيات مشيرة بالتحديد إلى ذلك الجدل المثير الذي أثير في المجتمع الفرنسي على خلفية إقدام الحكومة على منع ارتداء الحجاب الاسلامي في الاماكن العامة باعتبار أن ذلك يتنافى مع المبادىء العلمانية, واللافت ان هذا الفهم للديمقراطية على أنها الضامن للعلمانية يختلف مع الديمقراطية البريطانية التي لا ترى في حرية ارتداء الرموز الدينية خطرا على المبادىء الديمقراطية.
وترجع المؤلفة هذا الاختلاف ليس إلى خصوصية كل بلد فحسب بل إلى الترهل الذي يلحق بالديمقراطية في بعض جوانبها ويجعلها غير قادرة على التعاطي مع المستجدات.
وتنتقد المؤلفة الثورة الفرنسية بصرف النظر عن نبل مراميها على باقي القطاعات المجتمعية وسلب حقها في الاختلاف والمعارضة خاصة في ظل البطش الذي تعرض له كل من تجرأ على رفع صوته ضد الثورة, لتخلص إلى البداية الخاطئة للديمقراطية الفرنسية.
ولا تستثني المؤلفة من الانتقاد ثالوث الثورة المتمثل في الحرية والاخاء والمساواة ولاسيما اذا كانت السبل نفسها المتبعة لاحلال تلك القيم انحرفت في الكثير من الاحيان عن الاهداف الكبرى للثورة الفرنسية.