تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


لئلا تتحول الأمم المتحدة إلى مطية لتمرير مشاريع الهيمنة على المنطقة

قضايا فكرية
الأحد 6/11/2005م
ميخائيل عوض

بعد جهد جهيد وشد ورخي, وتصعيد أميركي-أوروبي وصلابة سورية وجزائرية-صينية-روسية,

خرج قرار مجلس الأمن الجديد بإجماع أعضاء مجلس الأمن الدولي, لتبدأ مرحلة جديدة من المواجهة بين التحالف الأميركي-الإسرائيلي-الأوروبي من جهة وسورية ومعها من معها من الدول والإدارات والشعوب.‏

القرار ألطف مما كانت تريده واشنطن-باريس-لندن, في لهجته وفي تلويحه بالعقوبات الدولية على سورية, لكنه خطير لجهة وضعه تحت البند السابع للأمم المتحدة, ولجهة تبنيه ما جاء في تقرير ميليس, ووصف عمل اللجنة بالمهني, وتفويض لجنة التحقيق الدولية بفرض ما تريده من أشكال ومضامين تعاون سوري طالب مجلس الأمن أن يكون تاماً ولوح باتخاذ إجراءات.‏

القرار الحالي حمال أوجه, يشبه إلى حد بعيد قرار مجلس الأمن سيىء الذكر 1441 الذي سبق العدوان الأميركي-البريطاني على العراق, فقد جاء نصه أيضاً حمال أوجه, وملطفاً عما كانت تريده واشنطن ولندن, وحال دون استخدام مجلس الأمن في تغطية الهجوم اللصوصي على العراق.‏

لهذه الجهة, المسألة يجب أن تكون واضحة وكذلك موازين القوى الدولية التي كشف عنها القرار والتي كان قرار 1441 قد قررها مع فارق جوهري هو في أن القرار 1441 جاء بفاعلية تعاون فرنسي صيني روسي, بينما القرار الجديد جاء بفعل موقف صيني روسي جزائري, في مواجهة تطابق الموقف الفرنسي الأميركي, أي بمعنى أن الأزمة مع سورية كشفت عن واقع دولي جديد يتكرس تباعا, يؤكد دخول النظام العالمي مرحلة جديدة نوعية تختصر بقيام نظام دولي متعدد الأقطاب تتحول معه قضايا العرب إلى عناصر محفزة ومولدة للظاهرات الجديدة في النظام الدولي.‏

الأهم في مفاعيل القرار وآليات اتخاذه أنه برغم تطابق الامبراطوريتين الاستعماريتين الأميركية والأوروبية إلا أن دولا قطبية أخرى بدأت تدلي بدلوها وتستحضر نفسها في تقرير شؤون العالم ولم تعد قابلة بترك الحبل الأميركي الأوروبي على غاربه.‏

هذا ما يمكن استنتاجه كتطور تاريخي مهم يؤسس لآليات تفاعل بين الدول المستهدفة والحالة الدولية المتغيرة, والمكرسة نموذجا عالميا جديدا متعدد القطبية لا يغير في حقيقته إنجازاً وتوافقاً بين قطبين مهما علا كعبهما, ويمكن تثبيت خلاصة إضافية مهمة, فالدول القطبية لن تحل نفسها محل الدول والأمم والشعوب المستهدفة إنما لها أن تشكل عنصرا مساعدا على المستوى الدولي في حال ابتعدت عن قرار تتغطى به من مجلس الأمن, حيث من المستبعد أن تستجيب روسيا والصين, وآخرون للتفسير الأميركي الأوروبي لمدى التعاون السوري اللاحق.‏

عبر هذا القرار دخل الصراع مع سورية العرب مرحلة حرجة, ودقيقة, محدودة الزمن, فالشهر والنصف المتبقية للجنة التحقيق برغم أن قرار مجلس الأمن جعلها مفتوحة على تمديد طويل الأمد إذا ما اقتضت الحاجة الأميركية الأوروبية ومخططاتها, تعتبر زمنا خطيرا, خاصة بعد أن أعطي ميليس دور القاضي والحاكم بأمره لجهة تحديد من هو متهم وأين وكيف يجري التحقيق معه, وألزم الحكومة السورية باعتقال وتوقيف من يطلبهم ميليس وإن قيّد حركته بتشكيل لجنة من الدول الخمس عشرة للاطلاع على قراراته والنظر بمدى لزومها.‏

ميليس في أعماله, وبتاريخه المهني, ومن خلال من أفصح عنه في السابق عندما أمسك بملفات أخرى كان يجاهر بعدائه لسورية وللمقاومات العربية, ويعلن انحيازه للمشروع الصهيوني وللمشاريع الاستعمارية المعادية للعرب, وبهذا القول لا جديد, وفي تقريره الأخير كشف عن حقيقة مواقفه بل أساء إلى منطق التقاضي بين الناس والدول, وأسقط العدالة الدولية والوطنية وجعلها مجرد وسيلة لفرض مصالح جهة بعينها بعيدا عن مسار العدالة كما تقول الصحف الألمانية وقاله كبار خبراء القانون الدولي والوطني.‏

وميليس أراد من تقريره وبالتنسيق مع الجهات التي سمته للمهمة أن يضع سورية أمام الخيارات الصعبة, وقرار مجلس الأمن 1636 لبى عمليا رغبته وحاجته, وقد سبق لنائب وزير الخارجية السورية أن أعلن معرفة سورية بأن القرار قد أعد قبل شهر ونيف من تقديم التقرير, ما يعني أن سورية تعرف ما يعد لها, وتدرك طبيعة مهمة ميليس وما ستؤول إليه وكيف تجري عمليات التحقيق والتدقيق التي يبدو أن ميليس ولجنته غير معنيين بها بدلالة ما قام به من تصرفات مع سورية عندما كتم غيّه وأوهم السوريين بأنه أنجز مهمته وليس له ملاحظات حتى يذهب إلى مجلس الأمن ويقدم ما قدمه من اتهامات بالجملة وبطريقة عشوائية لا يقبلها أي منطق.‏

المسار واضح, الأهداف واضحة والآلات واضحة, وما يراد من لجنة التحقيق ومن القرار الدولي بات مكشوفا ومدركا للخاصة والعامة, والسؤال الشاغل هو : كيف ستتصرف سورية, وما الذي يمكن فعله في مواجهة الحملة الظالمة في طورها الجديد:‏

- من نافل القول إن لجنة التحقيق وقرارات مجلس الأمن, والأحداث المتسارعة في لبنان وفي مواقف بعض الدول العربية إنما هي مجرد ساحة خلفية لتوفير الذرائع لفرض الحصار على سورية والعمل على العبث باستقرارها وقدراتها.‏

- بين تقرير ميليس وتقرير لارسن وأعمال مجلس الأمن والقرار المتخذ تبدو الأسباب والأهداف واضحة, فسورية تعاقب لأسباب أخرى أهما أنها ما زالت صامدة على ثوابتها تشكل جدارا شاهقا تمنع تقدم المشروع الأميركي الأوروبي لإسقاط المنطقة تحت الهيمنة الاستعمارية.‏

- الأزمة سياسية, والاستهدافات لسورية, وللمقاومات, وللعروبة, ولاستقرار المنطقة باتت مكشوفة, كما الاستراتيجية الناظمة للهجمة على ما أعلنه البيت الأبيض مرارا وتكرارا من سعي لإعادة هيكلة المنطقة لتتوافق مع المصلحة الاستراتيجية الأميركية, فالجبهة يجب أن تكون هنا بالضبط دون تجاهل ساحات أخرى, كساحة العمل الدبلوماسي, والسياسي, والإعلامي, والحرب النفسية, فتلك ساحات ثانوية للتمويه, وتشتيت الجهد والانتباه لأن الجوهري في الأمر هو الخيارات الوطنية والقومية والاجتماعية ليس إلا.‏

سورية بموجب الحملة الجديدة مطالبة بأن تخرج من جسدها, وأن تدمر نفسها بنفسها, وأن تلقي أسلحتها كلها قبل حصول أي مواجهة بغض النظر عن نتائجها الممكنة والمحتملة, ثم عليها أن تخضع في نهاية المطاف, إنها ذات السياسات والوسائل التي اعتمدت مع العراق, عندما قبلها وطبق ما طلب منه, ولم تمنع إسقاطه واجتياحه ساعة اتخذ القرار ولم يشفع لحكومته أنها قبلت تقليص عدد الجيش وتدمير الأسلحة, ووفرت للجان الخبراء الحق المطلق بالعمل كما يحلو لها, ثم تفتيش القصور واستدعاء العلماء وتفتيش منازلهم ومقارهم ووضع الاتصالات تحت السيطرة الدولية, وعندما أصبح العراق مكشوفاً كانت إشارة البدء بالعدوان, وهذا ما هو مطلوب من سورية.‏

خيار سورية الاضطراري هو إنقاذ وتفادي شرور الضغوط ومحاولات كسر إرادتها, ولا بديل عن هذا الخيار الذي يستوجب استخدام كل الساحات, وكل الإمكانات, وتنظيمها بتقانة عالية, فساحة الصراع الدبلوماسي يجب أن تخاض, والساحة الإعلامية يجب أن تتقدم, وتتوفر إمكاناتها وأدواتها, وساحة تحصين الداخل وتطوير آليات التفاعل بين المجتمع والقيادة أمر لا مفر منه, واستنفار واستحضار الوطنية السورية ذات المنسوب العالي تاريخياً لابد أن تبدأ على الفور, وبلا إبطاء, كما في المسارعة لتحقيق المصالح الاجتماعية لعموم الشعب السوري, وتلبية مصالحه, وتأكيد ثوابت سورية بأنها دولة المجتمع بمختلف تلاوينه الاجتماعية والطبقية, وتحصين المؤسسة العسكرية وتعبئتها مهمة تتقدم المهام الأخرى, وتسير إلى جنبها, كما في استنفار واستحضار الوطنية العربية, وتأمين مشاركة الشارع العربي وقواه الحية بعد أن تراجع دور وفاعلية محور الأمن القومي العربي وغاب النظام الرسمي عن دوره المطلوب في هذه اللحظة تجاه سورية وفلسطين والعراق ومختلف قضايا العرب.‏

تبدو المعركة حامية الوطيس وهي بكل حال حرب, إن عبرت عن نفسها إعلامياً أو دبلوماسياً أو عسكرياً, والحرب في كل زمن وعصر وساحة تتخذ شكلاً مختلفاً, والمطلوب من سورية هو الثبات في مواجهة الشروط التي يحملها المندوبون الأميركيون والتي هي بمثابة شروط إذلال وعقود إذعان واستسلام.‏

يوم كانت المعركة على أشدها في لبنان عام 1996 في اجتياح عناقيد الغضب جاء وزير الخارجية الأميركية يحمل للرئيس الراحل حافظ الأسد شروط الاستسلام, فما كان من الرئيس إلا أن لفت نظره قائلاً إنها شروط تفرض على المهزوم في الحرب, نحن لم نخض الحرب بعد, ولم نهزم, وعندما تكون الحرب والهزيمة فلكل حادث حديث, أبلغ أصحابك إذا كانوا خائفين من بضعة صواريخ صوتية (الكاتيوشا) فماذا ستكون عليه الحال إذا ما نشبت الحرب واستخدمت أسلحتها الفعلية, وإذ بالوزير يعود بعرض أفضى إلى ما سمي تفاهمات نيسان التي أسست لانتصار المقاومة اللبنانية وانتزعت مشروعيتها وفرضتها طرفاً وازناً وكرست توازن الرعب والردع, وفرضت أيضاً حضوراً أوروبياً عبر المندوب الفرنسي برغم أن أوروبا وفرنسا لم تكن بحجم هذا الموقع.‏

روسيا والصين تلعبان دور أوروبا في ذلك الزمن وربما أفضل بكثير, بل ويمكن الرهان عليهما أكثر مما كان ممكناً الرهان على أوروبا في العقد التاسع من القرن الماضي, والمستقبل يشير إلى استمرار وتعمق الاشتباك الأميركي-الأوروبي من جهة ومع الصين وروسيا وعموم آسيا الصاعدة اقتصادياً لتهز السيطرة الامبريالية الأميركية-الأوروبية, والعرب عموماً وعرب المقاومات خاصة صاروا أفضل حالاً مما كانوا في تلك المرحلة وكذلك سورية وإيران اللتان شكلتا قاعدة الصمود والثبات وانطلاق المقاومة اللبنانية, والنهوض الشعبي العربي حيث سقطت استراتيجيات التسوية السياسية, والاحتواء المزدوج, والحصارات والتطبيع والشرق الأوسط الكبير, والحال اليوم مع سورية والهجمة التي تستهدفها يمكن وصفها بكلمتين: إنهم ليسوا أقوى مما كانوا ولسنا أضعف مما كنا.‏

لسورية دور وقيم وثوابت لا يمكن أن تحيد عنها ولها القدرة إن شاءت على حماية استقرارها وأمنها وعزتها وجبه المحاولات الاستعمارية الجديدة, فالأمر يرتبط أولاً وأخيراً بالقرار وبإرادة الشعب الذي تقول سيرته التاريخية بحقيقة أنه يستشهد ولا يستسلم كما جاء في تجربة يوسف العظمة وصحبه من الوطنيين الأبرار, وكما قالت تجربة حافظ الأسد وعبقريته العملية والاستراتيجية.‏

البقية تأتي في لحظة عصيبة توجب على سورية تلبية الحاجة التاريخية الماسة بأن تظل قلب العروبة النابض ورمز رايتها الخفاقة.‏

كاتب لبناني‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية