|
أخــلاق الباديــــة ساخرة يمموا شطر فلسطين سراعا / عصبة تنتزع المجد انتزاعا/. حيث يتحدث في تلك القصيدة عن الصهاينة الذين جاؤوا إلى فلسطين شراذم من أصقاع الأرض. هذا الشاعر كان رأسه يمتلئ برواسب عن الأصالة والقيم العربية التي ما زال أهل البادية هم الحافظون لها، ولعله كان يدرس طلابه مفاهيمه تلك بنفس الحماس الذي يدرسهم به مادة اللغة العربية وقواعدها. في إحدى المرات قام مع مجموعة من طلابه برحلة إلى البادية لاطلاعهم عن كثب على ما يرسخ في أذهان أهل البادية من صور ذاك المناخ العربي الأصيل، وحين وصل الأستاذ المغامس مع طلابه إلى البادية بدأ الإشادة بطبيعتها الخلابة، وفي أثناء تجوالهم عثروا على خيمة أعرابي، فتوجه مع طلابه إليها لاطلاعهم على النموذج العربي الأصيل الذي افتقدته المدينة. - مرحباً يا أخا العرب، صاح الأستاذ من باب الخيمة. خرج أخو العرب مرحباً بالضيوف: - يا هلا بالربع يا هلا.. تفضلن .. تفضلن. أحس الأستاذ المغامس أنه فاز بالجولة الأولى، وحين جلس الربع على الطراريح الموضوعة على الأرض بجلسة عربية تتوق إليها نفس الأستاذ الشاعر المأخوذ بالأصالة العربية، صاح الأعرابي ثانية وهو يدور على ضيوفه بالقهوة المرة - يا هلا بالربع، شرفتونا والله يا هالربع. أحس الأستاذ بنشوة من كسب جولة جديدة تؤكد مفاهيمه أمام طلابه، وبعد تبادل بعض الأحاديث تهيأ الأستاذ عطا الله المغامس للجولة الثالثة التي بها يثبت بما لا يقبل الشك لدى طلابه مصداقية ما كان يحدثهم به عن البداوة وأصالة أهلها، فباغت الأعرابي بقوله: أخبرنا يا أخا العرب.. ما أحب الأشياء إلى قلبك، وماذا يستهويك في هذه الحياة؟ وكان الأستاذ يتوقع جواباً عن الكرم والشهامة وإغاثة الملهوف، لكن الأعرابي بصدق وبساطة شديدين قال: أم العيال، حلالي يا ستاذ، والله ما قدر نام ليلة ولا يغمض لي جفن من غيرها، طال عمرها وعمرك يا ستاذ، وهنا أسقط في يد الأستاذ وقد خذله الأعرابي أمام طلابه، لكنه لم يستسلم فراح يشرح وجهة نظر الأعرابي في أن أم العيال هي الأم التي يقول فيها الشاعر: الأم مدرسة إذا أعددتها / أعددت شعباً طيب الأعراق. وأفاض كثيراً في الشرح حول موضوع الأم إضافة لخصلة الوفاء التي يكنها الأعرابي لأم عياله، أما الأعرابي فقد كان فاغر الفاه لم يفهم شيئاً مما يقوله الأستاذ، لكن الأستاذ كان يدرك أن طلابه يبتسمون ابتسامة فيها من المجاملة لأستاذهم بقدر ما فيها من الخبث لذاك التبرير. بقي الأستاذ عطا الله المغامس رحمه الله حتى آخر أيامه متشبثاً بما يحمل من مفاهيم عن البادية وأصالة أهلها وحفظهم للقيم العربية التي اندثرت من المدن، لكن حظه العاثر هو الذي أوقعه على وسيلة الإيضاح الخطأ المتمثلة بذاك الأعرابي العاق.
|