في الانتخابات البلدية المعادة، أعاد رأس النظام التركي رجب أردوغان اجترار مصطلح أو مفهوم «المنطقة الآمنة» على الحدود مع سورية، كبوابة عبور لحجز مكان له في منطقة الجزيرة السورية جنباً إلى جنب مع حلفائه في حلف الناتو الأميركيين والفرنسيين، بعد أن وصل إلى حائط مسدود في عملية ابتزاز الدول الغربية بشأن مسألة «اللاجئين السوريين» وتفرّعاتها وتبعاتها، وفي آخر افتراءاته الإعلامية هدد أردوغان بعملية عسكرية خلال أيام قليلة في المنطقة التي يسميها «شرقي الفرات» ضد مرتزقة واشنطن في مليشيات قسد الانفصالية، الأمر الذي فتح فجوة في جدار العلاقة التركية الأطلسية، وطرح تساؤلات عديدة حول مستقبل هذه العلاقة في ظل الدعم الأميركي المعلن لمليشيات قسد المصنفة بنظر النظام التركي إرهابيةً وخطراً على ما يسمى أمنه القومي.
من حيث المبدأ لا خلاف أميركي تركي بالأصل حول إقامة هذه المنطقة التي تعتبر اعتداءً سافراً وغير مبرر على سيادة دولة أخرى مستقلة، إذ سبق للرئيس الأميركي دونالد ترامب أن وافق على إقامة هذه المنطقة بعمق كيلومترات قليلة، في حين طالب النظام التركي أن تكون بعمق ثلاثين كيلومتراً، إلا أن العقوبات الأميركية المطبّقة على نظام أردوغان منذ أشهر بالإضافة إلى صفقة صواريخ «s400» التي وقّعتها تركيا مع روسيا مؤخراً هما اللتان أججتا نيران الخلاف بين الطرفين، ويبدو أن صراع المصالح الأميركية التركية في هذه المنطقة سيكون العنوان القادم لمستقبل العلاقة بين الطرفين ونوعية التحالف أو الافتراق بينهما.
في جميع الأحوال لا يمكن لأحد أن يصدق أن تركيا الدولة الأطلسية القديمة ومخلب القط الأميركي لزمن طويل في المنطقة، يمكن أن تضع نفسها في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة الأميركية وهي الدولة الأكبر في الحلف ولها قواعد عسكرية ضخمة وأسلحة نووية في تركيا، أو أن تتحداها بخصوص مصير مرتزقتها في مليشيا قسد، إلا إذا كان الأميركيون يريدون ثمناً لبيع مثل هؤلاء المرتزقة الصغار لتركيا، وقد يكون ثمن الصفقة المحتملة هو استمرار نظام أردوغان بدعم الجماعات الإرهابية المنتشرة في أرياف حماة وإدلب واللاذقية وحلب لإشغال الدولة السورية وحلفائها واستنزاف قدراتهم على هذه الجبهات، للحيلولة دون قيام سورية وحلفائها بحشد قواتهم لتحرير منطقة الجزيرة السورية مما تبقى من داعش ومليشيات غير شرعية واستعادة السيادة عليها بعد إجلاء القوات الأميركية المحتلة والقوات الأخرى المتحالفة معها.
في سياق العلاقة الأميركية التركية المحكومة بالتحالف الأطلسي من جهة، والعلاقة التركية الروسية المحكومة بتفاهمات آستنة وسوتشي والعلاقات الاقتصادية والعسكرية المتنامية حديثاً من جهة ثانية، يبدو من الصعب تصديق أردوغان أو أخذ تهديداته على محمل الجد، وقد كشفت لنا سنوات الحرب في سورية عن شخصية أردوغانية غاية في المكيافيلية السياسية والانحطاط الأخلاقي سواء في تعاطيه مع الداخل التركي أم مع دول الإقليم، أم في تعاطيه مع ملف اللاجئين والحرب على الإرهاب، وقد بدا أردوغان أشبه بمهرج على حلبة سيرك في المنطقة مع قدرة كبيرة على الرقص على مختلف الحبال السياسية بعيداً عن الأخلاق والتفاهمات والاتفاقات الدولية، وقد ساعده في ذلك الموقع الاستراتيجي المهم لبلاده وحاجة كل طرف من الأطراف الدولية الكبيرة لإعطاء تركيا دوراً ما في أجنداتها ومخططاتها، والاستفادة من القدرات الاقتصادية والعسكرية التي تتمتع بها تركيا على مستوى الإقليم.
رغم السياق المطروح آنفاً إلا أن ذلك لا يمنع من وجود سياق آخر أو احتمال ضعيف بأن يلجأ النظام التركي لتنفيذ تهديداته بخصوص العملية العسكرية المنتظرة ضد مليشيات قسد في الجزيرة السورية على أمل أن يقتسم مع الولايات المتحدة كعكة المصالح في هذه المنطقة، وبالتالي التضحية أميركياً بالمرتزقة قسد كما ضحت بداعش قبل ذلك، وهذا ما يفسر اللقاءات الكثيرة والمستمرة بين العسكريين الأميركيين والأتراك للاتفاق على حجم التدخل وأهدافه وتبريره وتوقيته، ويشجعهما على ذلك أن الخسائر ستكون من السوريين حكماً، إذا يقاتل أردوغان بمرتزقة ما يسمى «الجيش الحر والفصائل الإرهابية المنضوية تحته» بينما تقاتل واشنطن بالمرتزقة الانفصالية والمنضوين تحت ما يسمى «قسد» ممن وضعوا أنفسهم بكل حماقة في خدمة الأجندات الأميركية على حساب انتمائهم الوطني، وأن الصراع المنتظر سيكون بكامله على الأرض السورية، كما جرت حرب واشنطن المزيفة ضد داعش على الأراضي السورية والعراقية، وكان من نتيجتها دمار مدن سورية وعراقية مثل الرقة والبصرة وقتل عشرات آلاف الأبرياء في البلدين دون وجه حق، في حين لا يزال التنظيم الإرهابي الاستخباراتي «داعش» قيد الاستخدام وينفذ عملياته الإرهابية بإيعازات أميركية سواء داخل سورية والعراق أم في مناطق أخرى لخدمة الأجندات الأميركية.