يستطيع أن يتناول ثمرة التين أو حبة الزيتون القابعة في قمة الشجرة دون أن يضطر لاستخدام «السيبة»، وبرع أيضاً في تحميل البضائع على ظهر الشاحنة، وذات يوم شغرت وظيفة (مناول) في المؤسسة العامة الاستهلاكية، فعينوه بها، فكان يناول الزبون أي سلعة يطلبها حتى ولو كانت على رف قريب من سقف صالة البيع، وعلى سبيل التنكيت لعب أحد العاملين في الصالة بعقله فجعله يسطر كتاباً للمدير العام يطالبه فيه بـ (تعويض) سلالم!
وكان يتربع فوق هذه القامة الطويلة رأس كبير، أو كما يقولون بحجم قفة الصوالة، وقدمه نمرة اثنتان وخمسون، أما كفه فبحجم المخباط الذي كان الصباغ يستخدمه في صباغة السراويل الفلاحية.
ولأن منطقتنا زراعية بعلية تعتمد على خيرات السماء، فقد كان الفلاحون في سنوات الخير ينعمون بالبحبوحة والوفرة، والرعاة يجدون العشب واصلاً إلى الركب، فيفلتون أغنامهم فيها لتأكل هنيئاً مريئاً، وأما في سنوات المحل فإن التقتير يصبح شعاراً يرفعه الجميع، والرعاة يضطرون لاستئجار الآبار من مالكيها، ولعل من الطريف أن نذكر أن تقدير منسوب المياه في الآبار المعدة للإيجار كان يتم بالشبر، والرعاة كانوا يشترطون على صاحب البئر أن يتم القياس بشبر أبي حمدان باعتباره أطول شبر في المنطقة!
وكان أبو حمدان أمياً تماماً لا يعرف ما هو الفارق بين الخمسة والطمسة، ومع ذلك نبغ أولاده جميعهم في الدراسة، وكانوا ينجحون من صف إلى صف بعلامات شبه تامة، ويجتازون الامتحانات العامة كمسابقة السرتفيكا الابتدائية والبروفيه الإعدادية والبكالوريا التجهيزية كما يجتاز الماء المنحدرات، وأبو حمدان لا علم له بذلك ولا خبر، ذلك أن أولاده يعرفون طباع أبيهم حق المعرفة، فما دام يطلب منهم رعي العنزات قبل الدوام وبعد الانصراف، وهم يقومون بهذا الواجب، فهو لا يعترض، وحينما بدؤوا يدخلون الجامعات واحداً وراء الآخر كانوا ينظمون فيما بينهم أدواراً في رعي العنزات، والموجود في القرية يغطي على غياب إخوته، وكثيراً ما كان الناس يسألون أبا حمدان عن دراسة أحد أبنائه فيقول:
الحمد لله ابني صار أستاذاً!
وذات مرة ارتكب الصغير غسان (الذي حصل على شهادة الدكتوراه في الرياضيات فيما بعد) خطأ وطلب من أبيه خمسين ليرة سورية للتسجيل في السنة الرابعة ولشراء كتب ومراجع طلبها الدكتور المشرف على حلقة بحثه، ووقتها عزيزي القارئ عينك لا ترى إلا (سحارة الكتب) الخاصة بغسان وهي تقذف إلى الزقاق، وهو يلحقها بجسده بعدما أتته رفسة في ظهره، ولا داعي لأن أوضح لك بأن رفسة أبي حمدان أقوى حتى من رفسة (الكر)، لسبب علمي بنسبة مئة بالمئة، ذلك أن قانون العزم الفيزيائي ينص على أن العزم هو جداء القوة مضروبة بالذراع، والقوة هي وزن أبي أحمد البالغ مئة وعشرين كيلو غراماً، والذراع هو طوله البالغ مترين!
اتقى غسان الأرض بيديه بسبب قوة الرفسة، وصار أنفه في جوف مقرر الرياضيات الإكتوارية، ثم خرج أبو حمدان تسانده زوجته وانفلتوا بالسباب عليه والدعاء إلى العلي القدير أن يقصف عمره، هذا المبذر الخاسر الذي لا يخجل من طلب خمسين ليرة دفعة واحدة!
هذه القصة بلغت أسماع ابن قريتنا أبي سعيد الشيكر فقال قولته الشهيرة آنذاك:
بالفعل، إن الذكاء في الدراسة لا يعني التصرف بحكمة في المواقف المعقدة.
وذهب من توه إلى منزل أبي حمدان، وتظاهر أمامه بأنه مؤيد لموقفه حيال غسان، ثم غمز لغسان بعينه، فلما خرج الاثنان من المنزل قال له:
أنت تعلم أن أباك لا يقرأ ولا يكتب، وهو يعتمد علي في محاسبة بائع الجملة في سوق الهال، لقاء مبيعات الحليب واللبن والقشطة، فلو أنك طلبت مني خمسين ليرة لأعطيتك إياها من دون شوشرة، وأنا أقتطع من كل نقلة إلى سوق الهال خمس ليرات وأسترد المبلغ، وفضت يا عرب.
(ملاحظة: القصة حقيقية، ويقال إنه لولا حنكة أبي سعيد الشيكر لاضطر غسان أن يوقف دراسته وهو في الصف الرابع، أو ينتظر حتى يموت أبوه ليكملها).