ويعتبر بأنه كان ينبغي أن تقع أشياء كثيرة, أن تمر أحداث وكوارث ومحن قبل أن يتشجع للشروع في كتابة كتاب يكون هو الشخصية الرئيسية فيه أو نقطة الارتكاز الأساسية?!!
لهذا نجد أنه في هذا الكتاب قد اضطلع بدور الراوية في محاضرة موضحة بالصور, فالزمن يقدم الصور , بالكلمات المرافقة لها ليس غير, وما يرويه في واقع الأمر ليس مجرى قدره الخاص, بقدر ما هو قدر جيل كامل, جيل عصر الذي أثقله عبء مصير قلما أثقل جيلاً آخر في سياق التاريخ.
فقد هزت أعماق وجوده انفجارات بركانية متواصلة تقريبا في أرضه الأوروبية وككاتب ومؤمن بالحركة الإنسانية ونصير للسلم فقد وقف على الدوام في المواضيع التي ضربتها أعنف الزلازل فقد دمر منزله ووجوده ثلاث مرات وذلك فصله عن الماضي وكل ما كان, ثم قذفوا به بغتى الى الفراغ كما يقول ( الى حيث لا أعرف) ولكنه لا يتأسف على ذلك فالإنسان الشريد يغدو حراً بمعنى جديد إذا أن من يفقد صلاته كلها هو الوحيد الذي لا يلزمه أي تحفظ فكري : ( فصلت حقاً عن كل الجذور, وعن التربة التي تغذيها, كما لم يفصل أحد في الماضي إلا نادراً, وكنت ولدت في عام 1881 في امبراطورية عظيمة وقوية تحكمها سلاسة هسبورغ, ولكن لا تبحث عنها في الخارطة, فهي قد أزيلت, وما بقي منها أثراً, وفي فيينا الحاضرة المتعددة القوميات والتي يبلغ عمرها ألفي عام, نشأت ثم أرغمت على مغادرتها مثل مجرم قبل أن تنحدر من عاصمة الى مدينة إقليمية في ألمانيا) يخلص ستفايج الى أن أقداره وطراز حياته جعلت منه غريباً حيثما حل أو ضيفاً في أحسن الأحوال, فأوروبا التي اختارها قلبه موطناً قد أقدمت على الانتحار حين انقسمت مرة أخرى الى جبهتين يحارب في ( هما) الأخ أخيه وشهد رغماً عنه أفظع هزيمة للعقل, وأشرس انتصاراً للوحشية في كل العصور, ويقول دونما افتخار:( إن تجربة التردي الأخلاقي من ذلك السمو الروحي الذي تحلى به جيلنا لم يعشها جيلا من قبل, ففي الفترة الواقعة بين نمو شعر لحيتي والوقت الحاضر الذي أخذ يخطه فيه الشيب , في نصف القرن هذا, حدثت تغيرات و تحولات جذرية أكثر مما حدث في عشرة أجيال من البشر).
بحيث شعر كل واحد من جيله أن ما حدث قد بلغ حدوده القصوى أو كاد .. ويؤكد لنا أن حاضره, وكل يوم من ماضيه نهضاته, وعثراته هي من التنوع بحيث يشعر أحياناً كأنه لم يعش حياة واحدة بل عدة حيوات إحداها مختلفة عن الأخرى, وكثيراً ما يحدث حين يتحدث سهواً عن حياته أن يتساءل ( أي حياة?) حياته قبل الحرب الكبرى أم حياته ما بين الحربين, أم حياته اليوم.. وتمر حياته كشريط سينمائي يصور عادة.. أبيض وأسود.. وأخرى ملونة.. حيث معسكرات اعتقال واضطهاد ولصوصية جماعية , وغارات جوية على مدن عاجزة عن حماية نفسها, وكل الفظاعات التي لم تعر فها الأجيال الخمسون الماضية..
تنطوي سيرة تسفايج على شهادة هامة بحيث يمكن أن يشعر القارىء سهولة أنه أمام وثيقة مفصلة تشرح حال جيل من البشر رؤوا أنفسهم في المرحلة ذاتها يرتقون تقنياً وفكرياً, ويحققون ... عدة أشياء لم يسمع بها قبلاً تتجاوز ما أنجز في مليون سنة تحول هائل وكل واحد أرغم على أن يكون شاهداً, فالفرار والحياد لم يكونا ممكنين بالنسبة لذلك الجيل, الذي كان منجذباً دوماً الى عصرهم بفضل تطورات العصر:(فحين دمرت القنابل منازل شنغهاي , علمنا بذلك ونحن في غرفنا في أوروبا قبل أن ينقل الجرحى من بيوتهم, لم يكن ثمة وقاية ولا أمان من إدراك الأشياء على الدوام, لم يكن ثمة بلاد يمكن أن تهرب إليها ولا راحة بال يمكن أن تشتريها فلقد امسكت بنا قبضة القدر دائماً وجرتنا الى عبثها الذي لا يتوقف).
كان على البشر ان يتكيفوا مع أكثر التغيرات خيالية, وكان الفرد مقيداً دوماً بالقدر العام أو الانسياق معه بلا مقاومة, انسان ذلك العصر اختبر التاريخ اكثر من أي سلف من أسلافه و تسفاريج كان من أولئك الذين تلقوا ضربات قدرية قاسية ساقته الى حياة تشبه التشرد تماماً.
كان تسفايج يشجع على الدوام اصدقاءه على تدوين مذكراتهم لا من أجل نشرها بالضرورة, بل من أجل أن يستمتع بها ويستفيد منها أبناؤهم وأسرهم, لقد كان يرى أن كل حياة تتضمن تجارب نفسية واجتماعية جديرة بالتدوين, ولعل افتتانه طيلة حياته باليوميات المخطوطة والمذكرات الشخصية, وكل الأثار المكتوبة باليد وبر اعته في تفسير تلك البقايا قد جعلاه ينتظر طويلاً قبل أن يكتب هو مذكراته.
انتحر تسفايج وزوجته في البرازيل في 22/2/1942 مؤكداً في رسالته التي تركها و راءه (قبل مفارقتي الحياة بارادتي الحرة وفي صحة من عقلي أنا مرغم على الوفاء بالتزام أخير : أن أقدم شكري الصادر من القلب الى البرازيل, هذا البلد الرائع الذي وفر كرمه لي ولعملي كل أسباب الراحة.. ولكن الذي بلغ الستين من العمر يحتاج الى طاقات غير عادية حتى يبدأ بداية جديدة كل الجدة وما لدي من طاقات قد استنفزتها أعوام التشرد المديدة, لذلك من الأفضل في اعتقادي أن أختم في الوقت المناسب , وأنا منتصب القامة, حياة كان العمل الفكري فيها يعني الفرح الأصفى, والحرية الشخصية الأنقى , تحياتي الى كل أصدقائي, عسى أن تتسنى لهم رؤية الفجر بعد هذا الليل الطويل وها أنذا أتقدمهم , وقد فرغ صبري تماماً).
ومن المؤكد أن تسفاريج لم يكتب هذا الكتاب كرسالة وداع, لأنه كان مشروعاً قديماً أشار اليه أحياناً في أوقات أسعد, وفي آخر زيارة له الى الولايات المتحدة , أقبل على كتابته بكل حيوية, وإن قسماً منه سوده خلال إقامته في فندق ويندهام في نيويورك ثم أنجز القسم الأعظم في مطلع صيف 1941 والفصل الوحيد الذي كتبه في البرازيل هو فصل ( أول الشباب) وهو لم يستدرك في هذا الفصل ما فات بأي حال من الأحوال, فالتأخير سببه الرغبة في التفكير في الصورة الصحيحة التي ينبغي أن يتخذها مثل هذا الموضوع الحساس المهم الذي يتحاشاه كتاب السير الذاتية عامة, إما استحياءً وإما مخافة الفضيحة.
وآخر سيرة انجزها قبيل موته كانت سيرة بلزاك التي نشرت بعد وفاته بعدة سنوات.
في آخر فقرة في كتاب عالم الأمس نقرأ:( كانت الشمس قوية السطوع, وبينما أنا ماضٍ الى المنزل, إذ رأيت ظلي أمامي كما رأيت الحرب السابقة خلف الحرب الراهنة, وخلال هذا الوقت كله لم يتزحزح ذلك الظل الثابت من أمامي, وبقى يوم فوق كل فكرة من أفكاري ليل نهار , وربما استلقى شكله المظلم على بعض صفحات هذا الكتاب أيضاً, لكن الظلال ذاتها تنشأ من الضوء رغم كل شيء, ومن لم يعش تجربة الفجر والغسق, والحرب والسلام , والارتقاء والانخفاض, فإنه في واقع الأمر لم يعش).
الكتاب : عالم الأمس لستيفان تسفاريج
ترجمة : عارف حديفة , صادر عن دار المدى في 344/2007