|
القيم بين النقد والخرق آراء
نتيجة اختيارهم الحر, بقدر ما يكون هؤلاء الأفراد مجسدين للضمير الاجتماعي الذي يعد في نهاية المطاف تكثيفاً أو تركيزاً لهذه القيم. ومما لا شك فيه أن الضمير الفردي ذاته يتقاطع في نقاط كثيرة مع هذا الضمير الجمعي, وبذلك تكون الصلة قائمة بين منظومة القيم والمعايير على المستوى الاجتماعي والفردي على حد سواء. وبطبيعة الحال ينبغي أن نتذكر أن من مزايا المجتمع الذي ينزل التربية الحرة لأفراده منزلة رفيعة هو المجتمع الأقدر على التطور والتقدم بسبب ما يبيحه لأفراده من حق غير محدود في نقد القيم ووضع المعايير السائدة موضع المساءلة في كل وقت وحين. على أننا هنا مدعوون إلى التمييز بين خرق القيم ونقد القيم, فالنقد يشكل موقفا بناءً يستهدف مراجعة قيمة من القيم لأنها قد أصبحت في نظر بعض أفراد المجتمع قيمة غير متمشية مع وقائع الحياة وضروراتها. فالنقد يستهدف الإصلاح والبناء وإضافة الجديد وإغناء الحياة, فمن ينقد حق الآباء أو الأسرة الموروث بقتل ابنتهم والثأر لما يسمونه شرف العائلة, فيقترح الاحتكام إلى القضاء في حال وقوع مخالفة من أي نوع كان من ناحية ويدعون من ناحية أخرى إلى منح الرجال والنساء حقوقاً متساوية في اختيار أساليب الحياة التي يودون أن يعيشوا وفقاً لها. من يدعو إلى هذا كله وما يشبهه هو ناقد مجدد وروح بناء يستهدف إعادة صياغة العالم الذي يعيش في ظله لينتج بدلاً منه عالماً أكثر معقولية وأقرب إلى الإنسانية وأشد احتراماً لعقل الفرد وحريته. ومن هذا يتضح أن النقد عملية خلاقة وإبداعية لا تتأتى ممارستها لمن أوتي عقلاً نيراً و إرادة حازمة وأفقاً منفتحاً بلا حدود. إنه يقترح على الآخرين رؤية جديدة ومنهجاً مغايراً وموقفاً مختلفاً من العالم القديم. وهو لا يقصر من وراء ذلك إلا إنتاج عالم جديد وأفق للرؤية منفتح على الجميع يحاول أن يجمع بين الحرية والعقلانية في مركب لا سبيل إلى إنتاجه إلا إذا كان النقد هو الخطوة الأولى في هذا الاتجاه. أما خرق القيم السائدة في مجتمع ما أو المهيمنة بقوة على أفراده, فأمر مختلف كل الاختلاف عن عملية نقد القيم التي من حقنا جميعاً أن نمارسها إذا شعرنا أن وجداننا وضميرنا يدفعنا إلى الشروع في تحمل عبء عملية النقد هذه. خرق القيم يشير بكل بساطة ووضوح إلى الفعل الذي يقوم به فرد أو جماعة من المجتمع ويشكل هذا الفعل انتهاكاً لقيمة محددة تؤمن بها هذه الجماعة أو ذلك الفرد - بصورة خفية أو سرية - ولكنهم مع ذلك لا يترددون في خرق هذه القيمة التي يدعون احترامها إذا ما بدا أن مصلحة ما أو نفعاً معيناً سيخسرونه إذا ما احترموا هذه القيمة, وبالأحرى إذا لم يخرقوها. وعلى ذلك فخرق القيمة يشير إلى الفعل الذي يتم به انتهاك هذه القيمة سراً, بينما يدافع من ينتهك هذه القيمة علناً عن شرعيتها وأهميتها لاستمرار حياة المجتمع من ناحية ولتحقيق العدالة من ناحية أخرى. وعلى سبيل المثال فإن القاضي الذي ينتهك قيمة العدالة إذ يحكم للظالم على المظلوم هو مثال حي لخرق القيم. ذلك لأنه إذ يرتكب فعل الظلم, فإنه إنما يرتكبه باسم العدالة وهو لا يجرؤ أبداً على التصريح بأنه يقضي على نحو مناقض للعدالة. فهو إذاً يتستر على فعل الظلم بأن يسوق المواد المتتالية من شتى القوانين التي يبرر بها حكمه الظالم أو الذي يشكل خرقاً للقيم وخاصة قيمة العدالة, على الرغم من أن تلك المواد التي أقام ظلمه عليها قد صيغت في الأصل لتحقيق العدالة. ثمة مثال آخر يمكن أن نسوقه حتى نجعل التمييز بين نقد القيم وخرقها أمراً أشد وضوحاً بالنسبة لكثير من الأذهان. فالألقاب العلمية يتم الحصول عليها بعد أن يمر صاحب اللقب بسلسلة من المساقات والمسارات التي يؤهله اجتيازها لنيل هذا اللقب العلمي أو ذاك. هذا ما يبرر تشدد السلطات في وزارة التعليم العالي ووزارة التربية على حد سواء في الجمهورية العربية السورية في تطبيق إجراءات التعادل المعمول بها في كل أنحاء العالم غير أن الذين يمنحون أنفسهم ألقاباً لم تصدر عن مؤسسات علمية معترف بها لا يتقدمون بألقابهم ولا مؤهلاتهم التي يفترض أنهم حازوها استناداً إليها, إلى السلطات المعنية التي يخولهم قرارها أن يحصل هذا الشخص أو ذاك على هذا اللقب العلمي الأثير إلى نفسه على الرغم من أنه لم يحصل على هذا اللقب أبداً. ومن يلاحظ قوائم الأسماء المنشورة على مكاتب البيروقراطيين أو في الصحف والكتب يجعلون أسماءهم مسبوقة بحرف الدال, وهو الرمز الذي يسبق اسم أي شخص حاصل على درجة الدكتوراه. غير أن كثيراً من هؤلاء وأولئك لم يحصلوا حقيقة على هذا اللقب بل هم قد قاموا بمنحه لأنفسهم بأنفسهم دون أن يعبؤوا بقيمتي الصدق والحق اللتين ينبغي لحامل هذا اللقب أن يحترمهما أولاً وقبل كل شيء. ونحن هنا لا نناقش اللقب ولا أهميته فكثير من الذين يحملونه فعلاً لا يستحقونه أصلاً. واللقب العلمي ما لم يقم صاحبه بتجديد فاعليته من خلال البحث والدرس المستمرين, فإن هذا اللقب يفقد قيمته حتى وإن كان صاحبه قد حصل عليه من مؤسسات علمية معترف بها. أعود إلى القول: نحن لا نناقش اللقب هنا ولا أهميته ولا يعنينا بأي حال من الأحوال أن يزين أي شخص اسمه بحرف الدال أو بأي حرف آخر من حروف الهجاء. إنما يعنينا هنا على الضبط هو فكرة خرق القيم. فهؤلاء الذين يمنحون أنفسهم ألقاباً هم أشبه ما يكونون بالقاضي الذي يخرق قيمة العدالة. أما هؤلاء فيخرقون قيمة الصدق والحق ولكنهم يخرقونها سراً. وفي مقابل ذلك هم يجاهرون بالدفاع عن هاتين القيمتين دفاعاً حاراً ومجيداً. حرف الدال هذا مجرد حالة واحدة من مئات الحالات التي يتم فيها خرق القيم. فالفساد مثلاً هو في جوهره خرق لكل القيم التي يقبلها المجتمع والتي يتبناها الفاسد نفسه. هل رأيتم فاسداً يجهر بأنه فاسد? كل الفاسدين يتبرعون بضروب لا حصر لها من القدح والذم في الفاسدين والمفسدين وفي الفساد نفسه. ولكنهم مع ذلك فاسدون بامتياز. ولكن ما مغزى أن يصم المجتمع أذنيه ويغلق عينيه عن خرق القيم, في حين أن هذا المجتمع نفسه يتصدى وبقوة لأولئك المبدعين الذين ينخرطون في عملية نقد خلاقة وبناءة لمنظومة القيم التي أكل الدهر عليها وشرب, ومع ذلك لم تزل قطاعات اجتماعية واسعة مستمرة في الدفاع عن ما لا يمكن الدفاع عنه? الإجابة عن هذا السؤال مرتبطة بتوزع القوى في المجتمع, فأكثرية الأفراد تؤثر السلامة وهي أكثرية بين اقليتين, أقلية تمارس النقد البناء, وأقلية تمارس خرقاً للقيم لا حد له. الأكثرية اللامبالية قد تدين الخرق لغة, ولكنها قد تنخرط في التصدي لمن يمارسون النقد فعلاً وقولاً. فقتل ا مرأة أحبت رجلاً, وإحاطة الفعل بالصمت التام تراجيديا يعيشها المجتمع في بعض أيامه على الأقل. وانكشاف عملية فساد كبيرة والصمت عليها كوميديا مؤسفة يعيشها المجتمع كل يوم. وبين الكوميديا والتراجيديا تقف أكثرية أفراد المجتمع ومؤسساته المختلفة صامتة وكأن الأمر لا يعنيها.
|