تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


سليمان العيسى...حملت على كفي غربتي وأحلامي

تجارب شخصية
الاربعاء 17/10/2007
براء الأحمد

- لم يكن يدري وهو يعبر الحدود المصطنعة من قريته التي ولد فيها (النعيرية) عام 1921 الواقعة غربي مدينة أنطاكيا في لواء اسكندرون السليب الى دمشق أنه سيصبح بعد وقت قصير شاعراً للخلاص القومي.

ترك الوالد والوالدة والاخوة في القرية متشبثين بالأرض والجذور وعانى الصبي الشارد ما عاناه من جوع والذي صار شاباً ثم كهلاً استطاع أن يغني لوحدة أمته نافضاً غبار السنين عن أزهى وأجمل ما في تاريخها العظيم, وحمل بشعره الصافي رسالة المحبة والعدل والحرية.‏

- إنه شاعر العروبة والعرب (سليمان العيسى) الذي قال:‏

- إن الحياة لا معنى لها إذا لم تنبض بهمّ كبير وبقلق دائم, والهم الكبير والقلق الدائم قد تفرضه عليك مرحلة من مراحل التاريخ, فإذا أنت تقوم في هذا التيار وتصارع الموج ويصبح الصراع جوهر وجودك. ومعنى حياتك كلها..ش‏

طفولة لا تنسى‏

لم أستطع تجاوز بدايات الطفولة وقرميد بيتنا الأحمر, ورفاق حارتنا الصغار وقصائد الطفل الاولى عن هموم الفلاحين.‏

- ففي قريتي الصغيرة الضائعة وراء الأسلاك والضباب كغيرها من أرض العرب حفظت قصائد المتنبي التي قاتل بها الروم وانا في التاسعة من عمري عن ظهر قلب ومعلقات الشعر الجاهلي وروائع أبي فراس وعشرات القصائد وكتّاب والدي الشيخ أحمد الذي علمنا ودربنا على الخط العربي وجودة الكتابة..وفي قريتي تلك تلقيت شرارات الثورة ثم مع بدايات الحركة العربية الجماهيرية التي هزت لواءنا السليب في مدينة أنطاكيا التاريخية دخلت المدرسة الابتدائية الوحيدة التي كانت للعرب ومديرها كان واحداً من مزارعي التمرد والثورة العربية في اللواء الشيخ (صالح الغانم) الذي علمنا الانتماء القومي في سن مبكرة. وفي فترة وجيزة التحمت حياتي بحياة الآلاف من أبناء المدينة والريف, وكان المعلم الرائد زكي الأرسوزي قد أشعل فيهم أول حركة جماهيرية وانتقلت المدرسة الى الشارع وكنا نخرج من الدرس الى المظاهرة, معارك يومية متصلة بين العرب والأتراك.‏

ألقيت أشعاري في جريدة (العروبة) في أنطاكيا والتي حملت سمتها وطابعها منذ تلك الأيام (الشعر للمعركة).‏

قافلة التشرد الاولى‏

- كنا قافلة الغربة والتشرد الاولى أنا وحوالى مئة وعشرين فتى من رفاقي من اللواء وكانت حماة المدينة الوحيدة التي احتضنت غربتنا وآوت تشردنا..بعد أن أصدر مدير المعارف في مدينة حلب أمره في طردنا عدم السماح لنا بالوقوف وأمام مدرسة التجهيز التي ألقينا رحالنا عندها. ولهذا توجهنا الى حماه حيث استقبلنا أهلها بالترحيب والهتاف. وتابعنا دراستنا في ثانويتها الوحيدة آنذاك. وفي صيف ذلك العام عدنا لرؤية أهلنا في اللواء وفوجئنا عند عودتنا للدراسة أن كل الأبواب أغلقت أمامنا ومغادرة اللواء اصبحت ممنوعة رسمياً. فما كان علينا إلا أن نغادر فرادى وكلاً على مسؤوليته الخاصة.‏

مشياً على الأقدام‏

- لا أنسى ذلك الزمن القاتم خريف عام .1939 قطعت مع أخي المسافة من مدينة أنطاكيا الى جسر الشغور مشياً على الاقدام المدماة ورغم الجوع والتعب كنا نصر على ان نلتحق بجسد الوطن الام. وبنصف ليرة سورية استطعنا ان نمتطي شاحنة عتيقة الى جانب السائق ونصل الى اللاذقية. وفي ثانوية جول جمال تخطيت عاما ونصف العام وما لبثت أن التحقت مع رفاقي اللوائيين في دمشق لمتابعة الدراسة والكفاح معهم حيث سكنا مع زكي الأرسوزي في بيت واحد.‏

الأرسوزي: صانع بدايات‏

- أمضيت اربع سنوات في بيت صغير في حي السبكي بدمشق بجوار معلمنا الأرسوزي وكنا حوله نتحدى الفقر والبؤس بشعاره الجديد العرب امة واحدة والوطن العربي وطن واحد. وفي يوم شتوي من عام 1940 والحرب العالمية الثانية دائرة الرحى التي أخبرنا بتأسيس حزب البعث العربي وطلب منا الاستعداد للعمل ولترجمة افكارنا التي حملناها في اللواء إلى عمل تاريخي عظيم. وقرر أن ننشئ جريدة تنطق باسم الحزب, وبالفعل صدر العدد الاول بعد أسبوع في ست عشرة صفحة مكتوبة بخط اليد مزدانة بالرسوم بريشة الفنان المرحوم ادهم اسماعيل. الذي كان طالب بكالوريا وقتها. وفي اليوم ذاته أمرت سلطة الانتداب بنفي الأرسوزي الى اللاذقية وكان عليه التي يقطع الطريق كله سيراً على قدميه يرافقه دركي على حصان.‏

وفي مساء اليوم الثاني كان أول منشور ثوري أصدره الحزب في أنحاء دمشق وعند عودتنا إلى البيت وجدنا رجال الأمن بانتظارنا. ألقوا القبض على أربعة منا, وتوارى الباقون.‏

قرى احتضنت غربتي‏

قرى منتشرة على ساحل اللاذقية وجبالها. عرفتني وأنا في مطلع الشباب أحمل على كتفي غربتي وأحلامي وأحاول أن أزرعها شعراً وزجلاً وأفكاراً متمردة, وكنت ورفاقي نتصور أننا سنغير بها وجه الأرض العربية.‏

ذكريات بعضها غار قي أعماق الذاكرة وبعضها لايزال حياً يتوهج بالرغم من مرور الأعوام ومن هذه القرى ( قسمين - عين اللبن - عين الزهور - الحميميم - الجبيلية - حمام القراحلة - عين الشرقية .. القرمدة - برمانة المشايخ ..) تملؤني حباً وشعراً وحنيناً بعد أكثر من نصف قرن من اشتعال خطواتنا وأغانينا الأولى في تلك المرابع الحبيبة.‏

- وفي أواخر صيف 1944 كنت في القافلة الأولى من الشبان الذين فتحت لهم البعثات العربية في العراق بعد أن أنهيت دراستي الثانوية.. وعلى باب دار المعلمين العالية ( كلية التربية الآن ) ومنذ اليوم الأول التقيت (بدر شاكر السياب) لنواصل رحلة الدراسة والشعر والحب والنضال.‏

- عشت في حلب عشرين عاماً. حيث دخلتها مدرساً للغة والأدب في ثانوياتها خريف 1947 وحملت معي إجازتي التي حصلت عليها من دار المعلمين العالية في بغداد ودفتراً مخطوطاً يحمل أول مجموعة شعرية لي. كنت قد بدأت أختار قصائدها وأسجلها في دفتري.. وحلب أملت عليّ نصف شعري وأعطتني أسرتي الصغيرة وأولادي الثلاثة. وقبل هذا أعطتني رفيقة العمر وشريكة الكفاح زوجتي د. ملكة أبيض. وأحييت أول أمسية شعرية في دار الكتب الوطنية وكان الشاعر عمر أبو ريشة مديراً لها. وكنا نتلاقى كل يوم, وفي شباط من عام 1958 قامت الوحدة بين سورية ومصر, أول وحدة تتحقق في تاريخ العرب الحديث بداية الحلم القومي الكبير الذي أشعل المشاعر ونفض المقابر. حيث أتى جمال عبد الناصر فجأة إلى حلب بعد أيام من وصوله إلى دمشق. إن العرب عاشوا في تلك الفترة أجمل أحلامهم القومية. هذا الفرح القومي العارم. وتلك الخيبات التي تلته حاولت أن أجسدها ما استطعت في مجموعاتي الشعرية التي أصدرتها في أواخر الخمسينيات حتى أواسط السبعينيات.‏

طموحي‏

لم أطمح في يوم من الأيام أن أحمل هذا اللقب الجميل الكريم ( سليمان الشاعر ) وإن كان عمر قصيدتي الأولى التي كتبتها بقلم القصب تحت شجرة التوت في قريتي الصغيرة قد تجاوزت السبعين من الأعوام الثقال الخفاف والحلوة المرة.‏

لقد تفجر صوتي أيام الطفولة والشباب بالعاصفات مع مد الثورة والتحرر. حيث بدأ المدّ بالانحسار, لذت بالصمت حيناً ثم تعلمت أن أفتح نوافذ للأمل بعد كل خيبة.‏

سيطر الهم القومي على كتاباتي سيطرة شبه كاملة في البداية. ولكن ظروف الحياة أيقظت فيّ مشاعر عميقة إزاء أشياء صغيرة لم أعرفها في الماضي. الاهتمام الذي تستحقه,وديوان (الثمالات) الذي نشر في صنعاء حافل بهذه الإلغامات الصغيرة ,ومع اشتداد الضربات رأيت الابتعاد عن الأحداث المباشرة بقدر يتيح لي الإصغاء الداخلي وسبر ذاتي. وجاءت (الثمالات) بأجزائها الخمسة لتكمل إخراجي من الدوامة دون أن تسقط الهم الأول.‏

- وفي أدب الأطفال اخترت تناول موضوعات تتصل باهتمامات الصغار وحاجاتهم فتحدثت عن الطبيعة والألعاب والهوايات والأحلام والآمال. ونوعت طرق المخاطبة فقلت الشعر وكتبت المسرحية والقصة الواقعية والخيالية‏

. وعرّبت آثاراً أجنبية وكان التعريب بالاشتراك مع زوجتي الدكتورة ملكة أبيض وبعض الأصدقاء. لذا يرى القارئ ألواناً من القصائد واحدة عن الأرض وثانية عن المرأة أو العالم والتراث والذكريات.‏

تجربة اليمن‏

- إن تجربتي في اليمن من أخصب وأهم التجارب التي مررت بها .. زرتها للمرة الأولى عام 1972عضواً في الوفد السوري لمؤتمر تربوي والزيارة الثانية عام 1981 بمناسبة مهرجان الشعر الخامس عشر وخلالها التقيت الشاعر اليمني الدكتور عبد العزيز المقالح. وتتالت اللقاءات.. وانتهت إلى استقراري أنا وزوجتي في ربوعه على امتداد خمسة عشر عاماً. حيث درست زوجتي في جامعة صنعاء وأنا تمتعت بالجو الثقافي الحميم وبصداقات ثمينة حفزتني على متابعة الكتابة والنشر فقد أثمرت هذه الفترة (الثمالات) بأجزائها الخمسة وديوان اليمن وشاركت بمحاضرات ومناسبات ثقافية وقد توجني اليمن بمكافآت لاتحصى.حيث كرمتني جامعة صنعاء ومنحتني الدكتوراه الفخرية وأطلقت اسمي على إحدى قاعات كلية الآداب. وحصل نفس الشيء في جامعة عدن. وأطلقت وزارة الثقافة اسمي على القاعة الكبرى في دار الكتب الوطنية بصنعاء وغيرها.‏

وهنا لابد أن أقول إنه لايمكن إغفال دور زوجتي, رفيقة دربي التي صحبتني في مشواري الطويل والتي أعانتني في عطائي وترجمت لي و كانت موحيتي لكثير من أعمالي.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية