أما الأول، فهو إثبات موقف، تسجيل موقف، نقطة نظام لأمر ما يخص الشأن الوطني بمختلف ميادينه ويمس نزاهة الشرفاء أو أمن وكرامة الشأن الوطني العام، والثقافي الصميم، بوجه ماكنا نشهده من «فساد» فقط، حيث لم يكن ثمة مصطلح للدم أو التحارب، فضلاً عن أن تكون قد احتفظت به ذاكرتنا حتى، لم يكن وارداً في التفكير أي مصطلح لما يشي بإثنيات أو عرقيات أو طوائف، دعوت لتسجيل موقف يقول للخلل والخطأ علناً وصراحة: أنا أقف هنا وأسجل هذا التجاوز وسوف لن أدخل في دائرة المتجاوزين أو أهادن أو أطامن أيا من هؤلاء، وهذا ما جعلني وأترابي بالمنهج خارج الإطار وخارج اللعبة حتى الساعة.
والثاني: هو السعي لخلق حركة جمعية من أولئك المثقفين الغيورين ذوي المواقف الوطنية العليا المشرقة، والمعدن الوطني السليم، وممن هم على نهجهم ويحملون ويحمون مورثات الحق الناصع والبيان الساطع والكلمة الفصل والموقف الشرف، حركة جمعية، على ندرة وقلة هؤلاء، والأهم، يقينهم بقلة عددهم وقوة فكرهم وموقفهم.
كان إيماني بالطرح الأول، وقد جسدته آنذاك، أننا، ومن باب أولى إن لم نستطع تكوين وتشكيل حركة جمعية تمكن «لنهضة أو نقلة وطنية أخلاقية ثقافية» لإحقاق الخير والجمال والحق جميعاً، فليكن فردياً، وهذا أضعف الإيمان، بتسجيل الموقف، والبقاء في الحلبة لتحين الفرصة، ويأتي الدور، ومراقبة ما يحدث للوطن عقداً وراء عقد عبر تراكمات لم تكن تخفى على أي نبيه يستشعر خطراً محدقاً لا يراه العاديون من الناس، ولا يريد أن يراه أولو الشأن والعزم.. والاكتفاء بالعمل بصمت ونزاهة وشرف حتى يحين التدخل لأجل شرف إعلان الموقف وإنقاذ ما يجب إنقاذه واتخاذ الدور الواجب في أي محنة قادمة لن يكون سوانا ورثة وأبناء وحملة مؤمنين صادقين لها وبها.
وكان حاديَّ ودافعي للأمر الثاني، هو استشعار حركة الزمن، وأن الحياة تمر ليس من عمر الوطن فحسب، بل ولاتنتظر المتوقعين المترقبين المترددين المنتظرين بنوايا طيبة لا تترافق بعمل وفعل. كنا نعرف بعضنا، ولو على امتداد الجغرافيا والأعمار، والآن لم نعد نعرف حتى أنفسنا، فقد اختلط الحابل بالنابل، والدماء بالدماء، وتبدلت النفوس، وتغيرت الأولويات، بعد أن طحنت الحياة والزمن، بما فيهم عجلاتُ الرديئين، آمال وأهداف الكثيرين من المخلصين، وبعد أن كشفت أسوأُ الأزمات في تواريخ شعوب الأرض قاطبة، عوراتِ الكثيرين، بالوقت نفسه الذي كشفت فيه معادن القلة الأصلاء.
وبعد هذا وكله لازلنا أكثر ضياعاً وتشتتاً، وهذا طبيعي ومفهوم في ظل هكذا انقسام وتشرذم وتفكك وغياب هدف، سوى الوطن ورجاله الحماة على مختلف الجبهات ودماء وجهود من بذلت للذود عنه وإعلاء كلمته في ظل هذه الحرب الشرسة القاسية القذرة.. ثم نعلق في كل ما نعلق تعبنا وفشلنا وأملنا على المؤسسات الثقافية، والمثقفين، وننظِّرُ ونقيم الندوات ونطلق الأحكام والأدهى والأمر عدا عن غياب الأولويات، غياب الاستراتيجيات والأهداف المرحلية والراهنة والمستقبلية لدرجة لم نعد نثق بحسن نية لأحد. فالعمل الواجب لازلنا نسميه إنجازاً، والبدء أو الشروع ولو بفكرة تحرك واقعاً صميماً نسميه حراكاً، و تظاهرة ما نحشد لها كل البهارج لازلنا ندعوها قمة الإنجاز معلقين كل هذا على مشجب الأزمة، بينما قوافل من الرجال و الدماء والمظلومين والشهداء الأحياء والفادين، مازالت تتوالى وتترى، والزمن يمر بما يقارب العقد من عمر هذا التراب وهذا الوطن وأبنائه، الجميع من أبنائه دون استثناء.
أزمتنا في الصميم أزمة ثقافية وبكل أوجه الثقافة ومستوياتها بدءاً من الذاتي وانتهاء بثقافة الكتاب والفكر والقلم وللآن لم نضع الإصبع على الجرح ولم نرتب الأولويات حقاً وإلا لكان اضطلع كل ذي دور بدوره.. إن أسوأ ما يحيق بالأمم والشعوب، وتحديداً في أزمات كبرى كالتي نشهدها، هو شعور ويقين المثقف أن لا مكان له، ولا دور، وشعوره وواقعه بأنه محارب، ومحبط الأعمال والأفكار ومجهض المشاريع ومبعدٌ ومهمشٌ عن مكانه ودوره الحق وهل أوضح من قول الكثيرين منهم «لا رأي لمن لايطاع».
والسؤال الآن بعد كل ما تقدم مطروح للإجابة: هل المشروع الثقافي الوطني في غياب.