إذاً.. المشكلة تبدأ من كلمة «الجهل» فالمواطن عندنا لا يسيء فهم هذه الكلمة المعقدة فحسب, بل إنه في الواقع لم يفهمها في أيِّ يومٍ من الأيام. لقد دخل الاصطلاح إلى قاموسنا المعاصر بمثابة ترجمة لكلمة «الأمية». دخل من لغاتٍ أخرى ورسخ في ذهن مواطننا بهذا المعنى الضيق, وإلى أن بات لا يرى ثمّة ما يدعوه إلى مراجعة هذا الخطأ»..
إنها مما وردَ في رسالة الأديب الليبي «الصادق النيهوم» إلى كلِّ جاهل في بلادنا العربية. الرسالة التي وجَّهها بعد أن وجد بأن الجهل, هو أكبر المشكلات وأخطر الأمراض التي تصيبُ كل من يشعر بأنه حارس الخير في مجتمعه, بل وعقله الناطق بعاداته وتقاليده ومعتقداته, وسواء الفكرية أو الاجتماعية أو الدينية..
نعم, إنها رسالة «النيهوم» الذي لم يُطلقها إلا بعد أن درسَ وتعمَّق في الأديان المقارنة التي عرف ما عليها وما لها. ما عليها من شوائبٍ, تبنَّى أهل الجهل تحويلها إلى واجباتٍ غير مقبولة ولا منطقية, ومالها من دلالاتٍ كونية - إنسانية..
عرفَ كل ذلك, بعد أن جابَ مغارب الحياة ومشارقها بالعقل. عقله الذي وعى, بأن لا شيء يهدِّدُ أمن وسلامة هذه الحياة, أكثر من أهل الجهل.. وبما أصيبوا به من أمراضٍ شخَّصها فوجدها:
«أمراضُ الجهل, التي تُدعى عادة بالتخلف الحضاري, وهي لا تختلف عن أي أمراضٍ عقلية أخرى, بل لا تقل عنها ضرراً أو خطورة, فالجهل حالة غيبوبة تشبه إلى حدٍّ بعيد, حالة الخدر الجزئي التي يعايشها المرءُ عندما يقع تحت طائلةِ العقار. إنها لاتبدو له غير طبيعية, لكنها تبدو كذلك لمن يراقبهُ».
بعد أن شخَّص «النيهوم» أمراض الجهل, شعر بأن عليه البحث عن إجراءٍ وقائي يقلل من خطورتها على الإنسان والوجود, ولأنه يرى بأن «الجهل مثل المعرفة, قابل للزيادة بلا حدود»..
شعر بذلك, فقام بدراسة كلِّ اللغات التي تمكّنه من إيجادِ ما يقي العقل من الأمراضِ الجاهلية.. درس الألمانية, الفنلندية, الانجليزية, الفرنسية, الآرامية.. درسَ أيضاً «الأديان».. تلك التي تيقّن بأنها الأصعب فهماً وتعقيداً وسمواً وتسامحاً وإنسانية.
حتماً, كان لابدَّ له, وبعد دراسته لكلِّ هذا, من أن يشعر بالأرق.. أرق العقل الذي وجد صعوبة, في التفاهمُ مع يَقِظِ الجهل. جهلُ من باتَ لديه معرَّفاً بعلاماتٍ تجارية مسجله باسمه, ومنها:
«أنه يعرف كل شيء, ومالا يعرفه من أمورٍ يعتبرها صغيرة, يعلِّقهُ في عنقِ «إلهِ الرعدِ». ذاك الذي يدعونا لتذكُّر «ساحر القرية» في حضارات الزنوج... العجوز الجهنمي الذي يزين رأسه بالقرون, ويحلُّ للزنوج البؤساء كل مشاكلهم, وإذا مرض أحدهم بالحمى, أعطاهُ أعشاباً تشفيه, وإن لم يُشفَ, ركلهُ في ظهره وأخبره أن «إله الرعد» يريده أن يموت»..
هي فعلاً, علامة من علامات الجاهل الذي قد لا يحتاج دوماً إلى قرون الساحر ذاتها. ذلك أننا كثيراً ما نراه, بكاملِ أناقته وشهرته ومكانته ومسؤوليته, ودون أن يعني هذا, بأن كل ما يعرفه هو الصواب, لأن الصواب قد يكون غالباً, في يقيننا بأن عقلهُ مصاب.
بيدَ أن الأمر ومهما بات واضحاً بالنسبة لنا, إلا أنه لن يكون كما لدى «النيهوم». الأديب الذي ولأنه اختص بمعرفة العاقل من الجاهل, وجد بأن هذا الآخر يعاني من الشعور بأنه:
«يقف دائماً عند محور الأرض, والدنيا تدور حوله. أي إنه يعتقد, بأنه مركز الكون. المركز الذي لا يمكن أن يتنازل عنه, دون أن يفقد جهله, لأنه لحظتها يرى الحقيقة والأشياء, والأعمى إن رأى, لابدَّ أن يفقد عماه».
إنها علامات, لابدَّ أن يرفض كل من في عقله جهل, تقبُّلِ منطقها. منطقَ العقل الذي لا يمكنه أن ينطق به, لأنه من يدعوك لإطاعته, وإن لم تقبل ستكون بخطرٍ سببه تخلف عقله. التخلف الذي يجعله ولدى رفضكَ الخضوع لمنطقه:
«يعدو في كل الاتجاهات, تاركاً آثار أقدامه الجاهلة, على كلِّ دروب الحياة».
يفعل الجاهل ذلك, فيأس «النيهوم» من إيجادِ سبيلِ لإعادته إلى صوابه. ييأس, فيضطرُّ إلى الإشاحةِ والسخرية منه, وعبر رسائلهُ العديدة التي وجَّهها وعَنوَنها بـ «تحية عربية وبعد».. الكتاب الذي حملَ كل السخرية والجرأة في نقدِ كلِّ إنسانٍ جاهل, وبمخاطبته:
«إن الجاهل مثل ساعة مليئة بالأوساخ, وتشير عقاربها إلى منتصف الليل. إنه يعيش متأخراً بضع سنوات, وأحياناً بضعة قرون, دون أن يهمه أن العالم حوله, لا يحرك طبعاً لتوقيته الرديء.. إنه شبح, من مذبحة الماضي, وراء قناع مواطن معاصر, بل حارس لمقبرة لا يراها إلا عقله الجاهل».