وفي لحظات الالتصاق بالأرض هذه - حيث يمتزج حب الحياة بالعزم على تضحيتها- ينفجر في البشر كل ما كانوا يحسبونه فوق طاقة البشر وقد تحدث عندئذ المعجزة التي يتغير فيها تاريخ المعارك والشعوب.
ولاشك أن الحرب أصعب مظاهر الكفاح الإنساني، وأصعب ما فيها أن يكون المرء آمراً مسؤولاً عن قيادة المجموعات الكثيفة من البشر وتوجيهها، خاصة في جبهة القتال حيث يتحرك كل شيء بسرعة هائلة، ويكون القائد محتاجاً إلى كل قوته بل إلى ما يزيد عن قوته للاحتفاظ بجدارته تجاه الأولياء والأعدا وأقول - الجدارة- لأنها في رأيي شيء يتجاوز الكفاءة التي يحصل عليها آمرو الجيش بالعلم والمران، وهي ظاهرة تبرز في اللحظات الحاسمة حين يغدو وتقلب الأحداث والنفوس والمواقع وميضاً صاعقاً على ميدان المعركة، ويصبح إصدار الأوامر - ولا أقول تنفيذها- ضرباً من المستحيل، ويتحدد بروزها على الخصوص في إدراك القائد لموضع تلك - السدادة- التي تطلق المارد في كل مقاتل وتفجر في البشر كل ما كان معدوداً فوق طاقة البشر وقد لا يتجاوز إشراق هذا الإدراك في وعي القائد تلك اللحظات القصار التي استغرقتها كلمة طارق: - البحر وراءكم والعدو أمامكم-، أو حركة خولة وهي تنتزع عموداً من إحدى خيم النساء، أو نداء الجنرال الروسي بانفيلوف:- ياأولادي- وهو ينبه رجاله الثمانية والعشرين إلى طلائع دبابات العدو أثناء زحفها على موسكو. والأساس في هذه الكلمات والحركات الملهمة التي خلدها التاريخ إنها اللمسة الساحرة التي اهتدت إلى كبسولة الانفجار في كبرياء الإنسان، وألقت إليه بالمسؤولية الكاملة وبالحرية الكاملة في قبول هذه المسؤولية أو رفضها: لك أن تموت بطلاً في المعركة أو منتحراً في البحر، أن تنجو بجلدك أو تحمل على العدو بما تطول إليه يدك، وأن تكون من أولادي أنا قائدك ووليك أو نبتة طفيلية عاشت بعض الوقت على هذه الأرض ولم تنفع أحداً بثمر ولا أريج، وإنك فيما ستختاره ن إحدى الحالتين: مسؤول عن اختيارك ومسؤول عن موضع قدمك وعن أرض الوطن كله، وعن رفاق سلاحك، وعن كل دمعة وابتسامة في حياة مواطنيك أجيالاً حاضرة وأجيالاً قادمة فإذا وعيت مسؤوليتك وقبلت أن تتحملها فإن حمايتك الرادعة الرائعة ستبقى ممدودة الرواق على وطنك كله سواء كنت حياً أو ميتاً، وستعيش في كل من سيعبر هذه البقعة وفي كل مكان سيعيش عليها إلى آخر الدهر.
لقد رضي مئات الألوف من رواد البحث والاكتشاف أن يموتوا وماتوا في سبيل أمر أمر أقل شأناً من قضية الوطن، مات كيميائيون في المختبرات وجيولوجيون في الجبال، ومكتشفون في مجاهل القطب، ولو أوحي لهؤلاء الخالدين أن موتهم سيكون مغامرة تافهة لاختبار مادة مجهولة، أو ارتياد أرض جديدة أو تجربة محرك طائرة أو سفينة فضائية لآثروا أن يعيشوا في أمن وعافية كما يعيش البرجوازيون الصغار في الدواوين والحوانيت، وأن يموتوا على فراشهم مشيعين بدموع الورثة. ولكنهم عاشوا يحدوهم هدف عظيم وقبلوا أن يموتوا في سبيل هذا الهدف العظيم، وكانت كبسولة الانفجار في تلك الطاقة الهائلة من الصبر والكبرياء والتضحية: إنهم فرسان قضية حضارية على نطاق الإنسانية كلها، وإن حياتهم كانت حافزاً وموتهم سيكون حافزاً وكلا الحافزين ضروري لامتداد شعلة الحضارة وخلودها.
وليس من الصعب أن نكتشف كبسولة الانفجار في طاقاتنا كلها اليوم ونحن نرى الصهاينة على مرمى البصر قائمين في أرضنا يحرثونها ويتمتعون بثمرها ولا يقبلون جدالاً في أمرها، فإن هذه الكبسولة هنا في أنفسنا وفي أرضنا في كل ما نحبه ونحرص عليه ونفتخر به ونطلب له الخلود، في كل حقيقتنا الإنسانية والحضارية.. وفي أطفالنا ونسائنا ورجالنا.. فيمن مات.. وفيمن سيولد.. في ري الآمنين وعطش التائهين في سيناء في رثاء الأصدقاء وشماتة الأعداء.
في تراب الذين لن يعودوا وجراح الذين عادوا من أشداق الموت، وقد انفجرت هذه الكبسولة حقداً وإرادة منذ أن فرضت المعركة أحد أمرين: «أن تكون أولا تكون».. فليضموا شطر القدس أو شطريه فإننا لم نعترف لحظة بأن في فلسطيننا قدسين، وليشربوا بترول سيناء وزيت نابلس وليبطروا بما تحقق لهم منذ عشرين سنة حتى اليوم، فإننا لندرك أن هذه المعركة تزيد عن هذا بأنها أحد أمرين: «أن تكون أولا تكون». ولا نجهل أن المواجهة ستكون قاسية وقد يضارب الأعداء بأسهم الحياة والموت بحيث يرتفع ثمن الواحد منهم إلى عشرة منا. ومع هذا «سنكون» وسيبقى منا بعد كل غبن من يرث هذه الأرض ويزرعها حباً وخيراً وسلاماً وعنفواناً، ويذكر لنا وهو يعيش هناءته وكرامته، أننا عشنا النكبة صامدين وكسرناها بعملنا وكفاحنا وكبريائنا ولم نيأس حين أطبقت عوامل اليأس بل فرضنا أن «نكون»، وأثبتنا للعدو والصديق أننا ورثة أرضنا الصالحون.
الخميس 10/8/1967