لا يمكن لأي كاتب أو راو مهما بلغ من الحذق والمهارة أن يعزل شخصية أبي الجود الفذة عن الشخصيات الأخرى التي تجمعه بها حكايات ومواقف طريفة, والأفضل في مثل هذه الحالة أن نتحدث عن الظروف التي مر بها أبو الجود بشيء من التفصيل حتى نصل إلى نقطة الالتقاء مع الشخصية الأخرى.
في أيام الطفر أراد أبو الجود أن يحسن وضعه المعيشي فتعلم مهنة صنع السقوف المستعارة وصار يشتغل بعد الدوام في هذه المهنة التي تناسب ميوله الفنية, فقد كان في مطلع حياته رساماً, وفي وقت لاحق تعلم بعض مبادئ العزف على العود وكانت له هواية بالخط العربي والزخرفة, وكل هذه الهوايات ذهبت أدراج الرياح بسبب نحسه الأزلي.
ذات مرة طلبت منه إحدى الدوائر الرسمية أن يصنع سقفاً مستعاراً لقاعة مخصصة للاجتماعات الكبيرة والمحاضرات لقاء أجر مغر, فما كان منه إلا أن هب مسرعاً لتنفيذ العمل ولكن المشكلة التي اعترضته لم تكن سهلة ,ذلك أن سقف القاعة التي سيصنع لها السقف المستعار يرتفع عن الأرض في حدود عشرة أمتار ويتطلب الوصول إليه سيبة طويلة في حين أن السيبات المتوفرة في الأسواق لا تزيد عن أربعة أمتار فما العمل?
جلس يقّلب الأمر على وجوهه المختلفة وفكر في أن بإمكان المرء أن يأخذ سيبتين إلى الحداد ويضع إحداهما فوق الأخرى ويطلب منه أن يلحمهما بالقصدير, ثم يأخذ السيبة الملحومة ويذهب إلى القاعة, ويصعد إلى السقف ولكنه سرعان ما خاف من هذه الفكرة فأي سقوط بجسده الضخم على الأرض سيجعله يتحول إلى حطام ولا يوجد مستشفى مزود بعدد من الأطباء المختصين بالعظام يكفي لتجبير كسوره ورضوضه.
فكر ببناء جدار بارتفاع خمسة أمتار ثم وضع السيبة فوقه والصعود إلى السقف ومباشرة العمل ولكن الجدار الثابت لا يساعد المرء على الحركة في كل الاتجاهات.
أخرجه صوت ابن خاله أحمد من شروده واستفهم منه عما يؤرقه فلما عرف قصته قال له:
بسيطة مشكلتك محلولة بإذن الله
دهش أبو الجود وقال: بسيطة ومحلولة . كيف?
قال أحمد: اذهب إلى جامع.. واطلب من خادم الجامع أن يعيرك السيبة الخاصة بالجامع فطولها لا يقل عن عشرة أمتار.
صدق أبو الجود كلام أحمد على الفور فهو كثيراً ما صلى في هذا الجامع وبالفعل إن سقفه مرتفع جداً وفيه ثريات معلقة عالياً, ولا شك في أن تنظيفها بين الحين والآخر يحتاج إلى سيبة من هذا القياس.
في اليوم نفسه صلى العصر في جامع »...« وبعد الصلاة أقبل على خادم الجامع وقال له:
تقبل الله العظيم.
وقبل أن يرد عليه الخادم بقوله منا ومنك صالح الأعمال عاجله أبو الجود بطلب استعارة السيبة وشرح له بسرعة أن الأمر يتعلق بتحصيل بعض الأموال الإضافية لإعالة الوالدة والعمة والأخوات المريضات اللواتي خلفهن لنا الوالد.
لم يتفوه الخادم بحرف, مشى أمامه إلى زاوية في باحة المسجد حيث تستلقي السيبة الفارعة الطول وقال له:
خذها وحينما تنتهي منها أعدها لبيت الله. حمل أبو الجود السيبة وخرج إلى الشارع وهناك اعترضته مشكلة لا تقل صعوبة عن سابقتها وهي كيف سيعثر على شاحنة ذات صندوق كبير ليضع السيبة في صندوقها وينقلها إلى الدائرة الحكومية التي سيركب لقاعتها الكبرى سقفاً مستعاراً.
وبينما هو ينتظر إذ مر به بطل سيرتنا الآخر أبو نايف الاسفنجة راكباً على دراجته النارية طراز ياماها وقف بجواره وقال له اطلع.
قال أبو الجود: والسيبة?
قال ضعها ورائي بالعرض واصعد أنت وراءها وأمسكها من الطرفين كي لا تقع.
نفذ أبو الجود الاقتراح وهو مذهول وحينما مشت الدراجة وقد وضعت السيبة عليها بالعرض بدا الأمر وكأنه مشهد من سيرك عالمي.
فجأة صرت مكابح الدراجة صريراً عالياً , أعقب ذلك اصطدام وعلت الصيحات والولاويل, كان عدد من العمال المنصرفين من عملهم ذاهبين في عمق الشارع ونزل أبو نايف بينهم بدراجته ناسياً أن وراءه سيبة طولها عشرة أمتار فأوقع العمال كلهم على الأرض.
والتفت إلى أبي الجود وقال له:
انظر إلى هؤلاء الناس الذين لا يفهمون وليس لديهم جنس الذوق يا رجل تخيل يمشون في الشوارع ولا ينظرون وراءهم.