تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الوعي الجمالي للحداثة الشعرية العربية

ملحق ثقافي
2018/11/27
د. ثائر زين الدين

بين سعد الدين كليب أن الوعي الجمالي للحداثة الشعرية العربية يتميّز من نظيره الكلاسيكي بعدّة سمات ٍ تجعله جديداً تماماً، كما تجعل نتاجه الشعري مختلفاً عن نتاج الشعر الكلاسيكي

والتقليدي المعاصرين، وحصر تلك الميزات في:‏‏

1-التجادلية.‏‏

2-الدراميّة.‏‏

3-الكليّة.‏‏

ونعتقد بدورنا أن هذا الوعي الجمالي الحداثي قد تجلّى في مجموعة من الميزات الجمالية الفنيّة يمكن تكثيفها بما يأتي:‏‏

رأى الشعراء الحداثيون العرب أن موسيقا القصيدة الكلاسيكية شبيهة بإطار الصور الكلاسيكية، أي إِنها لا تتفاعل مع الموضوع»- كما عبر بلند الحيدري – فالموسيقا التقليدية سابقة على الموضوعات الجديدة، ومن ثم فهي تقيّد الشاعر بما يتواءم مع مرحلة سابقة. لهذا حاول هؤلاء البحث عن موسيقا جديدة لتجربتهم الجديدة «بحيث تتحوّل الموسيقا في كل قصيدة إلى موسيقا القصيدة الخاصة لا إلى موسيقا البحر»، وفي كل الأحوال فقد انطلق الشعر الجديد ليكسر رتابة البيت التقليدي، ذي الهندسة الرتيبة المعروفة مسبقاً، واستعمل بداية التفعيلة كوحدة إيقاعية، ثم عمل على تكسيرها بالتدوير وغيره، وعلى فصم ارتباطها بالبحر الأصل لها.‏‏

وطرح عوضاً عن البيت مفهوم السطر الشعري، فأصبحت الأسطر مرتبطة ارتباطاً حميماً بالإيقاع الداخلي لنفس الشاعر، بكل ما فيها من حركات وسكنات، من فورات وتدفقات عاطفية ولحظات هدوء وصفاء، فراحت هذه الأسطر تقصر أو تطول بناءً على ذلك، وتم التعامل مع القوافي بصورة جديدة من تقفية سطرية موحدة أو متنوعة، إلى تقفية الجملة الشعرية بطرائق مختلفة، إلى تقفية المقطع الشعري فحسب، وصولاً إلى إلغائها حتى في الكثير من نصوص التفعيلة كما لجأ الشاعر الحديث إلى المزج الموسيقي فاستخدم المزج العروضي والمزج بين نظامي التفعيلة وقصيدة النثر، واستلهم الإيقاعات الداخلية من الشعر العربي القديم ليستثمرها ويطورها في قصيدته الجديدة ولاسيما في قصيدة النثر، التي تعد ثورة الحداثة الشعرية الثانية»، ومِنْ ثَمَّ فقد رأينا الشاعر يتعامل بحرّية وتلقائية مع إيقاع الشعر وموسيقاه، ورأيناه مسكوناً بالتجريب في هذا المجال، حتى أصبح من الصعب أن نجد نصين اثنين – لشاعرين حقيقيين – ينظمها إيقاع واحد أو تسوسهما موسيقا واحدة!‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

2- أولى الشاعر العربي الحديث الصورة أهميّة قصوى في العملية الشعرية كيف لا والشعر هو» التفكير بواسطة الصور» كما عبر الرمزيون الروس، وها هي ذي القصيدة الحديثة –» تلغي ثنائية التعبير المعروفة فكرة + صورة، وتجعل التعبير عن الفكرة يتم من خلال الصورة أو بالصورة، وثانيهما أنها رأت في الصورة أداة الخلق أو التعبير الوحيدة عن التجربة الشعوريّةِ وأبعادها كلها ومضامينها وخصائصها، أي جعلت من الصورة المكوّن الرئيس لها»، والصورةُ في الشعر الحديث وسيلة خلقٍ وكشفٍ ورؤيا وأداةُ تعبير وحيدةٌ عن العلاقة المتشابكة المُعقّدة ما بين الأنا – الآخر، الداخل – الخارج ومِنْ ثَمَّ فقد تخلّت الصورة الفنيّة الحديثة عن وظائف الصورة التقليديّة في الشرح والتزيين، وإذا كانت المقاربة هي القانون في التصوير الفني سابقاً، فإن الحداثة الشعريّة والجمالية عامةً «رأتْ أن التعبير عن الواقع يمكن أن يتم برصد آثارِهِ، لا برصدِ خصائصه وسماتهِ، ولهذا أصبحت المُباعدة أو المفارقة أشبه بالقانون الجمالي في التصوير الفني». واتسَعَتْ الهوّة بين طرفي الانزياح الدلالي، ومِنْ ثَمَّ طغت لغةُ الإيحاء، وتعدّدت دلالاتُها، وأصبحت ميزة للغة الشعرية الحداثية. نقرأ المقطع الآتي كمثالٍ عاديٍّ على ذلك:‏‏

«ليدين من حَجَر وزعترْ‏‏

هذا النشيدُ .. لأحمدَ المنسيِّ بين فراشتين‏‏

مضتِ الغيومُ وشرَّدتني‏‏

ورمتْ معاطفها الجبالُ وخبأتني‏‏

نازلاً من نحلة الجرح القديم إلى تفاصيل‏‏

البلاد وكانت السنةُ انفصال البحر عن مدن‏‏

الرماد وكنتُ وحدي‏‏

ثم وحدي...‏‏

آه يا وحدي؟ وأحمدْ‏‏

كان اغترابَ البحر بين رصاصتين‏‏

مُخيّماً ينمو، ويُنجب زعتراً ومقاتلين».‏‏

وبالمقابل لا بُدَّ أن نشير إلى تراجع مفهوم الصور الجزئية في قصيدة النثر ولا سيما في الثلث الأخير من القرن الماضي حتى اللحظة التي تبنّت ما يمكن تسميته بالحدس الحسّي على حساب الحدسين الميتافيزيقي والصوفي اللذين كان يمتلكهما الشاعر النبي والشاعر الرائي، وذلك بعد تراجع مكانتِهِ من المركز إلى الهامش؛ ومِنْ ثَمَّ تراجعت أهميّة الصورة الجزئية حتى كادت قصيدة النثر تخلو منها – في تجاربها الأخيرة- وَحلّ محلها الاهتمام بالصورة الكليّة للقصيدةِ أو المقطع؛ « فحين سادتْ آليات السرد الذي تمثّلُهُ اللغة التداولية بديلاً عن الانحراف والانزياح اللغوي، نتج عن ذلك نوع جديد من (الحيود)؛ إذ إن السرد يقتضي رسم صورة كليّة، دون أن يعول كثيراً على نحت صور جزئية، لأنها بطبيعتها تتطلّبُ انحرافاً لغوياً لم يعد قائماً داخل القصيدة، وهنا تتأسس القصيدة على مفهوم المشهديّة، الذي يعتمد على خلق مشهد شعري يتسم بالاطّراد والاكتمال؛ وهذا الاكتمال لا يتحقق إلا عند الوصول إلى الكلمة الأخيرة من المقطع/ القصيدة، فيما يشبه لحظة الأورجازم»، لنقرأ مثلاً هذه القصيدة للشاعر رياض الصالح الحسين:‏‏

روتين‏‏

« القهوة مع الحليب في الصباح‏‏

قبلة الزوجة السريعة‏‏

الطريق إلى العمل‏‏

الطريق إلى البيت‏‏

الطريق إلى السرير‏‏

ومن ثم...‏‏

القهوة مع الحليب في الصباح‏‏

إنه حيّ تماماً‏‏

المسه ولا تخفْ‏‏

فالموتى لا يخيفون».‏‏

3- انطلقت قصيدة الحداثة العربيّة في تجاربها الأولى والمبكّرة من مفهومٍ اعتبر يومئذٍ أحد أهم مرتكزاتها الجماليّة، وهو مفهوم الوحدة الذي جاء بصيغ مختلفة أهمها: «الوحدة العضوية» تأثراً بالمدرسة الرومانسيّة على الأرجح، وقد كتب أدونيس في سبعينيات القرن الماضي حول ذلك قائلاً: «..القصيدة العربيّةُ القديمة مجموعةُ أبيات، أي مجموعة وحدات مستقلة مُتكرّرة لا يربط بينها نظام داخلي، تلتمسُ جمالياتها في جمالية البيت المفرد. مُقابل هذهِ القصيدة القديمة تنهض القصيدة الجديدة (وهي) وحدةً متماسكة، حيّة، متنوّعة، وهي تُنْقَدُ ككل لا يتجزّأ، شكلاً ومضموناً.. وفي حين لا يتطلّب إدراكُ الشكل في القصيدة القديمة جهداً، فإن إدراكه في القصيدة الجديدة يتطلّبُ وعياً شعريّاً كبيراً يتناولُ معرفة الأجزاء في مادة القصيدة، وعلاقات هذهِ الأجزاء بعضها ببعضها الآخر، وائتلافها فيما بينها ووحدتها ومن لا قُدرةَ لهُ على هذا الإدراك لا يقدر أن يفهم القصيدة الجديدة ولا الأشكال الشعريّة الجديدة».‏‏

وركّز الشعراء الحداثيون الرواد على هذهِ الفكرة، فرأى السيّاب القصيدةَ كائناً حيّاً ينمو ويتطور حتى يحقق اكتمالهُ، وهذا ما نجدهُ في رسالةٍ بعثَ بها إلى أدونيس مُعلقاً فيها على إحدى قصائدِهِ يقول فيها: «كانت قصيدتك رائعة بما احتوته من صور، لا أكثر، لكن هل غاية الشاعر أن يُري قراءَه أنّه قادر على الإتيان بمئات الصور؟ أين هذهِ القصيدة من (البعث والرماد) تلك القصيدة التي ترى فيها الفكرة تنمو وتتطور، والتي لا تستطيع أن تحذف منها مقطعاً دون أن تفقد القصيدة معناها». ويؤكد بلند الحيدري النمو العضوي لقصيدة الشعر الحر، ويربط النمو بالتكامل، فهي نمو متكامل، ويميز بين القصيدة القديمة والجديدة من حيث شكلها وبنائها، فيقول في القصيدة الجديدة: «إنها تنحصر في إعطاء تطور العمل الفني طبيعة، نمو عضويّة، أي إن القصيدة تتسع وتنمو من خلال أطرافها كلّها، صورها وموسيقاها وتأزمها النفسي»، ولو قرأنا كتاب أحمد عبد المعطي حجازي «الشعر رفيقي» لوجدناه يؤكد ضرورة الوحدة العضوية في بناء القصيدة الحديثة، إذ يقول: «الوحدة العضوية هي مجموعة العلاقات التي تربط عناصر القصيدة وأجزاءها وتتيح لها التشكل والنمو والتكامل»، وسنقع على آراء مشابهة وسابقة لنازك الملائكة ويوسف الخال والبيّاتي، ما يؤكد أن شعراء الحداثة ولا سيما الرواد رَأَوا أن (الوحدة العضويّة) ومفهوم (النمو) و(التكامل) المرتبطين (بالرؤيا) هي أقانيم جمالية رئيسة في تشكيل القصيدة العربية الحديثة .‏‏

4-فهم بعض الشعراء العرب الحداثيين وأحس آخرون أن قصائد الشعر العربي القديم بصورة عامة- مع بعض الاستثناءات القليلة- قصائد لا تعرف مفهوم الذروة، فهي - كما أشرنا في البند السابق- لا تبنى على مفهوم الوحدة؛ سواء كانت وحدة «عضوية» أو «موضوعيّة»، لكنها تقوم – على الأغلب- على»روعة المعاني»، فعليه قد نرى تلك القصيدة تمتد ما شاء الله لها؛ فتبلغ مئة بيت مثلاً؛ وهذا أمر مستحب ما دام الوزن واحداً والقافية واحدة تشدُ أزر القصيدة،و هناك على الأغلب مناسبة أدت إلى النظم، وما من داع لتكون المعاني المطروقة كلها مترابطة متحدة متصاعدة لتبلغ ذروة معينة، فبإمكانك أن تقدِّم بيتاً على آخر أو تؤخر جملة أبيات وتقدّم عليها سواها، وهذا أمر لم يره الشعراء الرواد في الشعر الأوروبي الذي يقوم على التركيب الذروي، وربما بسبب تأثرهم بذلك الشعر (الفرنسي والأنكلوسكسوني) وبسبب مؤثرات محليّة ونفسيّة عديدة رأينا نماذج من قصائد التفعيلة الحرّة بالتحديد تنحو هذا النحو ويحاول شعراؤها الاستفادة من مفهوم الذروة في الفن، وهو مفهوم يقوم على أن عناصر القطعة الفنيّة الموسيقيّة أو الشعريّة أو المسرحيّة» تكون متفرّقة متباعدة أول الأمر، ثم تتقارب وبعد ذلك تصطرع ثم تبلغ الذروة من العنف: وعندها تنحل الأزمة، ثم يعقبها هبوط أو سلام يؤدي إلى النهاية». وهذا مفهوم نجد تجلّياته واضحة جداً في موسيقا هايدن وموتسارت وبيتهوفن، «بل إن موسيقا القرن التاسع عشر في أقطار أوروبا جميعها ليست إلا موسيقا الذروة»، وقد بدا كل ذلك نتاجاً للمرحلة الرومانسيّة حيث إن «انطلاق العواطف والتحامها ثم انتصارها أو تحطّمها هي مبادئ الرومانسيين. ولكي يضفوا على هذه الفوضى الانفعالية شكلاً فنيّاً، قالوا بوجوب فرض (وحدة) نهائيّة عليها – والذروة هي الرباط الذي يربط في الختام العناصر المتفرّقة في وحدةٍ فنيّة».‏‏

ومع نهاية القرن العشرين بداية الواحد والعشرين بدأ شعراء قصيدة النثر وبعض المنظرين لها يطرحون ما أسماه الدكتور كمال أبو ديب «جماليات التجاور أو المجاورة»، وهي وفق تعبيره «جماليات جديدة تحتاج إلى نمطٍ من التأمل جديد لاكتناهها والتمتع بها، إنها جماليات تنقض أو توجد في فضاء لا علاقة له بفضاء جماليات الوحدة»، ويتابع أبو ديب باسطاً فكرته ومسوغاتها: «إننا بحاجة إلى تأسيس جماليات المجاورة، بدلاً من جماليات المشابهة والانصهار والوحدة، ويبدو لي أن عبقرية الفن العربي عبرت عن نفسها تماماً بلغة المجاورة لا الانصهار، وأن قانون المجاورة هو الذي يتخلل الإبداعية العربيّة»، هي إذن وجهة نظر ترى أن جماليات التشظي واللاتناغم تحلّ في هذه الحقبة محل جماليات الوحدة النابعة أصلاً من رؤية رومانسية وصوفية للعالم والبشر والغيب تحت مؤثرات ٍ اجتماعية وسياسية وفكرية معاصرة، «فالعمل الإبداعي نفسه لم يعد يفصح عن إيمان بالوحدة، ولم يعد موحداً أو مجسداً لرؤيا توحيدية، بل أصبح متشظياً متفتتاً، يشف عن رؤية تفتيتية، إن شف عن رؤيا على الإطلاق. كذلك حدث شيء بالغ الأهمية في العالم نفسه: هو أن الوحدة انهارت، وتشظت المقولات القائمة على الوحدة ابتداءً بالهيجلية وانتهاءً بالصوفيات المعاصرة، مروراً بالعقائديات الكبرى».‏‏

وقد رأى كمال أبو ديب انطلاقاً من دراسته لنماذج عديدة من قصيدة النثر العربية أن جماليات المجاورة هذه تتحقق عبر «جماليات اللقطة وجماليات اللفتة» حيث تتمثل الأولى «في نمط من التناول الشعري يحل العين محل الأنا تماماً، ويعتبر اللقطة البصريّة تكويناً جمالياً مكتفياً بذاته في غنًى عن استدخال الذات المحللة أو المعلقّة أو المنفعلة»، ويمثل أبو ديب لرأيه هذا بنماذج شعرية منها نص «قمر ضال»، للشاعر محمد متولي:‏‏

«الشاطئ خال ٍ‏‏

إلا من طفلين‏‏

يرقبان القمر في حسرة‏‏

بعد أن أفلت‏‏

من أيديهما»‏‏

وتبرز جمالية اللفتة في نماذج عديدة من قصائد النثر منها مثلاً نص «صديقي الطيب عبود» للشاعر حسين درويش:‏‏

«في الشارع الممتد التقينا‏‏

تعانقنا طويلاً‏‏

تعاتبنا طويلاً‏‏

تواعدنا على لقيا في المساء‏‏

مساءً التقينا في الصحيفة‏‏

أنا في صفحة التعارف‏‏

هو في صفحة الوفيات»‏‏

ويرى أصحاب هذه الرؤية أن حلول العين محل الأنا يؤدي إلى انحسار جماليات الانفعال والشعور وذهنية الحذلقة والبراعة، إلى انعدام ٍ لامتلاك العالم وفقدان للرغبة في التفسير أو القدرة عليه – وهو وجه من وجوه سقوط الأيديولوجيا، ذلك أن كل تفسير في النهاية هو تعبير عن تملك أيديولوجي للمفسر، فالكتابة من وجهة النظر هذه تنأى اليوم عن التفسير؛ لأنها تشعر أنها لا تمتلك العالم أيديولوجياً، فترى العالم مغلقاً غير قابل للإدراك، ويصبح الشعر، شعر اللحظة الراهنة شعر البرهة، شعر الذات التي «لا يشرنقها وعي تاريخي ولا تفهم اللحظة باعتبارها وليدة التاريخ، بل تُحسُّها لحظة منقطعة قائمة فيما يكاد يكون انقطاعاً زمنياً كلياً عن نهر الزمن المتدفّق».‏‏

6-استلهمتِ القصيدةُ الحديثةُ الأسطورة ولاسيّما في بداية الانفجار الحداثي الأوّل أي مع قصائد: مثل «أنشودة المطر» للسياب أواسط الخمسينيات، وظهَرَ منهجٌ راسخٌ وعميقٌ أطلق عليه بعضُهم «المنهج الأسطوري» وفق مصطلح إليوت، أو النسق الأسطوري وربط كثيرون بين ظهور الشعر الحداثي وولوج الأسطورة جسدَ القصيدة بصفتها بعداً بنيوياً شعورياً، كتب صلاح عبد الصبور في «حياتي مع الشعر»: «إن الدافع إلى استعمال الأسطورة في الشعر ليس هو مجرد معرفتها، لكنه محاولة إعطاء القصيدة عمقاً أكثر من عمقها الظاهر، ونقل التجربة من مستواها الشخصي الذاتي إلى مستوى إنساني جوهري، أو هو بالأحرى حفر القصيدة في التاريخ»، وأكد يوسف سامي اليوسف أن الأسطورة لم تلج جسد القصيدة لتكون «بمنزلة عتلة رافعة لها، إنما جاءت بوصفها الرؤيا الشعرية نفسها، وبوصفها جوهر التركيب البنيوي للقصيدة عينها»، وبذلك تحققتْ فوائد فنية جمّة تمثلت في «تعميق الكيف الدرامي للقصيدة، وإعطاء المفاهيم والتصوّرات بُعداً شخصياً، وإعطاء المضمون بُعداً كونياً، والتخلص من الزمن وتعطيله والتعبير عن رغبة الشاعر في التطهّر والتجدّد». وقد استرفَدَ شعراء الحداثة الرواد بدايةً الأساطير الإغريقية والرومانيّة، كأن نقرأ لأدونيس على سبيل المثال توظيفاً لأسطورة سيزيف في بعض مقاطع «أغاني مهيار الدمشقي»، ولا سيما قصيدة «الإله الميت»، المقطع الموجّه «إلى سيزيف»، وكأن مهياراً يريد أن يقول من خلاله: إنه اختار هذه الدرب الشاقة، فهو سيحمل معه صخرته الأبدية دافعاً ثمن حريته التي سلبوه إياها غالياً، ومحاولاً حتى الرمق الأخير تغيير الواقع:‏‏

«أقسمتُ أن أكتبَ فوقَ الماء‏‏

أقسمتُ أن أحملَ مع سيزيفْ‏‏

صخرتهُ الصماءْ .‏‏

أقسمتُ أن أضلّ مع سيزيفْ‏‏

أخضعُ للحمى وللشرارْ‏‏

أبحثُ في المحاجرِ الضريرهْ‏‏

عن ريشةٍ أخيرهْ.‏‏

تكتبُ للعشبِ وللخريفْ‏‏

قصيدةَ الغبارْ.‏‏

أقسمتُ أن أعيشَ مع سيزيفْ».‏‏

وكأن يستلهمَ السياب أسطورة «سربروس» في قصيدتهِ الشهيرة «سربروس في بابل»؛ مشيراً من خلالِ سربروس إلى شخصية الطاغية الذي كان يحكم العراق زمن نظم القصيدة:‏‏

«ليعوِ سربروس في الدروب‏‏

في بابلَ الحزينة المهدمهْ‏‏

ويملأُ الفضاءَ زمزمهْ،‏‏

يمزقُ الصغارَ بالنيوبِ، يقضمُ العظامْ‏‏

ويشربُ القلوبْ.‏‏

عيناهُ نيزكانِ في الظلام.‏‏

وشدقهُ الرهيبُ موجتانِ من مُدى‏‏

تخبئُ الردى».‏‏

ومن ثُمَّ استلهم الشاعر العربي الحديث الأساطير الفرعونيّة وأساطير ما بين الرافدين والسورية القديمة، فشاهدنا في فضاءاتِ نصوصهم إلى جانب «أوليس وسيزيف وزوس وبرمثيوس وأفروديت وفينوس...» شخصيات مثل: «رَعْ وإيزيس وإنانا وعشتار وجلجامش، وعنات وبعل، وأنكيدو...»، مع تأكيد حضور أساطير الخصب والانبعاث (تموز، الفينيق، العنقاء، أدونيس، عشتار، بعل) ولا سيما بعد النكبة في الخمسينيات والستينيات كرمز على انبعاث الحياة وتجددها بعد الموات، وعلى انبعاث الأمة، وبرزت مجموعة الشعراء التموزيين من أمثال: أدونيس، والسياب، وحاوي، فقرأنا لأدونيس ضمن هذا السياق قصيدة «البعث والرماد»، التي منها:‏‏

«أحلم أن رئتي جمرة‏‏

يخطفني بخورها يطير بي لبعلبك‏‏

بعلبك مذبحٌ‏‏

يقال فيه طائرٌ مولّه بموته‏‏

وقيل باسم غده الجديد باسم بعثه‏‏

يحترقُ (......)‏‏

للموت يا فينيق في شبابنا‏‏

للموت في حياتنا‏‏

منابع، بيادر‏‏

(....)‏‏

وأمس مات واحدٌ‏‏

خبا وعاد وهجهُ‏‏

من الرماد والدُّجى‏‏

تأججا».‏‏

وقرأنا لخليل حاوي في ديوانه «الناي والريح»، ما يقود إلى المصب نفسه، وكان السياب في «أنشودة المطر» قد سبق إلى استلهام أسطورة الانبعاث والنماء ولكن بعمق شديد، ودون أي ذكر للفينيق أو تموز أو سواهما، فقد جاء التوظيف ضمنياً يومئُ ولا يصرّح.‏‏

وقد جاءت النقلة النوعيّة في الانتقال من توظيف مختلف تلك الأساطير - التي تنتمي إلى تراث المنطقة أو ما وفد إليها - إلى استدعاء الشخصيات التراثية العربية (مسيحيّة وإسلاميّة وسواها)، واستخدامها أدوات فنية، أو لنقل راح الشاعر يعبّر بها عما يريد، ولم يعد يعبّر عنها، ويروي قصتها في جسد القصيدة – كما كان الشأن في مدرسة الإحياء - فاستخدمها رموزاً وأقنعة ومرايا وما إلى ذلك، ومن هذه الشخصيات على سبيل المثال: «محمد (ص )، علي (ك)، المسيح (ع)، مريم، ألعازر، أبو ذر الغفاري، خالد بن الوليد، الشنفرى، الخضر، صقر قريش، المتنبي، ديك الجن، كليب، مهيار، الرشيد، الحلاّج، زرقاء اليمامة، الحسين..»إلخ.‏‏

7- أفادت قصيدة الحداثة من الفنون كلها ولاسيما الفنون الأدبية كالرواية والقصة القصيرة والمسرح، وتعدّت ذلك إلى الاستفادة من الفنون البصرية ولا سيما السينما والفن التشكيلي والميديا، ووظفت ما استطاعت من تقانات هذه الفنون وجمالياتها، فأصبحنا نقرأ قصائد تتكئ على السرد ومفرداته البنائية المختلفة وجمالياته (انظر على سبيل المثال لا الحصر كثير من سرديات محمود درويش الشعرية: الحديقة النائمة- مرثيته في عز الدين قلق- مرثيته في ماجد أبو شرار- وغيرها الكثير)، وبرزت قصيدة التفاصيل اليومية، والمعيشة (سعدي يوسف- معظم قصائد النثر)، واستخدمت عوالم الألوان ومفردات اللوحة الفنية وطرائق بنائها وموضوعاتها في القصيدة (مظفر النواب، ومحمود درويش، وأمل دنقل، وصلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطي حجازي وغيرهم..)، وذهب بعضهم إلى إبداع القصائد المجسدة التي يبنيها الشاعر على المساحة البيضاء كما يفعل الفنان التشكيلي (محمد بنيس، عبد الله راجع، عادل فاخوري، عبد القادر أرناؤوط، فاتح المدرس، أدونيس، كمال أبو ديب، نذير العظمة..) واعتمد آخرون تقنية اللقطة، أو عين الكاميرا وما شابه ذلك ما أغنى القصيدة الحداثية وميّزها من سواها فنياً ومعنوياً!!‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية