تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


معركة الحداثة بين النخب العربية

ملحق ثقافي
2018/11/27
إعداد: رشا سلوم

شغل الفكر العربي الحديث منذ ربع قرن ونيف بما يسمى معركة الحداثة، ومن ثم جاء مصطلح ما بعد الحداثة، وما بينهما كانت رؤى ومعارك كثيرة، سال حبر لا يمكن أن نقف عند خطوطه العريضة،

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

لكن مما يمكن الوقوف عنده ما قاله ذات يوم عبد الوهاب المسيري، إنها الحداثة المائعة، أو السائلة التي تعني انتهاك كل شيء، وتحويله إلى فقاعات صابون، لكن الحوار والنقاش حول القضية عادا من جديد، ها هي أخبار الادب المصرية تفتح الملف من جديد وتعود إليه، يكتب الباحث المصري عاطف محمد عبد المجيد في أخبار الأدب متحدثاً عن الحداثة كما رآها الكثيرون، ويقول:‏

إن الفارق بين الحداثة وما بعد الحداثة هو فارق كمّي وليس كيفياً، وذلك أنني كنت متأثرًا بما ذهب إليه مارشال بيرمان من أن الحداثة الأوروبية التي بدأت من القرن الثامن عشر عندما وصلت إلى القرن العشرين، وأصبحت بمثابة المجلي الثقافي للصعود الأخير لمرحلة الرأسمالية التي ارتبطت بالعولمة، أصبحت «ما بعد حداثة»، ولذلك تقبلت تعريف مارشال بيرمان عن الحداثة. ما سبق قاله نصاً د. جابر عصفور في كتابه «معركة الحداثة» الصادر حديثًا عن الهيئة العامة للكتاب، والذي يهديه إلى روح جمال الغيطاني وعبد العزيز حمودة، خاصة أن هذا الكتاب يضم المساجلات النقدية التي جرت بينه وبين حمودة عام 1998، وقد مرت أعوام وأعوام على هذه المساجلات التي دارت في جريدة أخبار الأدب، ونسيها في ما نسي من ذكريات يمحوها طول العهد بها، على حد قوله، إلي أن نبهه صديقه الصحفي محمد شعير إلي مرور عشرين عامًا على هذه المساجلات، وسأله لماذا لا ينشرها بكل ملابساتها؟ سؤال شعير جعل عصفور يفكر في الأمر مليًّا، منتهيًا إلى الاقتناع بأن هذه المساجلات والحوارات التي دارت حولها والتعقيبات التي كتبها الأصدقاء والنقاد، أصبحت من وثائق النقد العربي الحديث، خصوصًا بعد مضي ربع قرن عليها، مؤكدًا أن الأجيال الجديدة لا تعرف شيئًا عنها.‏

آخر المعارك‏

عصفور الذي يرى أن هذه المعارك النقدية تتيح الفرصة لكل الأطراف أن تواجه مواقفها الفكرية وتُراجعها، أو تضعها موضع المساءلة، سعيًا إلى تعميق الأفكار، أو محاولة إقناع الآخرين بها، ومن ثم تمكينهم من وضع هذه الأفكار موضع المساءلة للإبانة عن قيمتها الحقيقية، يرى هنا أن هذه المساجلات كانت معركة من معارك النقد الأدبي التي تُضاف إلي المعارك الأدبية للقرن العشرين، بوصفها آخر هذه المعارك على حد وصف الراحل جمال الغيطاني لها. في مفتتحه لكتابه هذا يعترف عصفور أن المساجلات التي نشرتها «أخبار الأدب» كان بها عنف لفظي متبادل من جانبه ومن جانب حمودة، مُرجعًا هذا العنف إلى عوامل ارتبطت برد الفعل العنيف الذي تركه داخله كتاب حمودة «المرايا المحدبة». لقد ساء عصفور إلى حد بعيد ما قرأه في كتاب حمودة من تهجم ظالم على الحداثة والبنيوية والتفكيك معًا، وفوجئ، بل فُجع بما فيه من لمز وغمز لا يليق بالإنجاز الفكري للراحل نصر حامد أبو زيد الذي كان يعيش وقتها في منفاه القسري. لقد شعر عصفور بدرجة غير عادية من الغضب على العوار المنهجي وغير المنهجي الذي امتلأ به كتاب حمودة، رائيًا أن كتابه لم يكن يرمي الحداثيين العرب بالباطل فحسب، بل ضم بين العاطل والباطل بهدف السخرية ممن يُسميهم نخبة النخبة من الحداثيين العرب مشيرًا بسخرية في أسطر كتابه الأولى إلى أنهم نرجسيون إلى حد بعيد. في حديثه عن علاقته بالحداثة يقول عصفور إنه بدأ بشعور الرهبة والخشية التي يشعر بها كل القراء من خارج نادي نخبة النخبة الحداثي، غير أنه وبعد أن تفرغ لدراستها من داخلها بدرجة تكفي لفهمها، أصبح قادرًا على التعامل مع البنيوية والتفكيك دون انبهار. عصفور الذي همّ أن يُنقي هذه المساجلات من العنف، وتذكر أنها بعد نشرها لم تعد ملكه وحده ولا ملك حمودة. يقول إن هذه المساجلات قد بدأت خلال عامي 1998 و1999 ولم تكتفِ أخبار الأدب بما كتبه عصفور وحمودة، بل طلبت التعليق علي ما قيل، ونشرت تعليقات وتعقيبات من النقاد المصريين والعرب ضمت أجيالاً وأقطارًا عربية متعددة. وكانت بعض هذه التعليقات، حسب عصفور، مفيدة ومضيئة إلى أبعد حد، بل كان منها ما يُعد نموذجًا فريدًا في القراءة ما بعد الحداثية، مثلما فعل محمد بدوي، وبعضها الآخر لم يكن يخلو من ضغائن شخصية.‏

هنا يقول عصفور إن مصطلح الحداثة قد اقترن مع أسماء المذاهب النقدية التي أخذنا نتطلع إليها بوصفها حلاً جديدًا للمأزق الذي أوصلتنا إليه دوغمائية الواقعية الاشتراكية علي مستوى اليسار وعدمية النظرة الشكلية التي كانت تتخيل العمل الأدبي بوصفه بنية مستقلة بذاتها لا علاقة لها بغيرها، فالعمل الأدبي يوجد ولا يعني كما قال الشاعر الأمريكي أرشيبالد ماكليش. في معركة الحداثة يورد عصفور ما قاله تيري إيغلتون في كتابه نظرية الأدب من أن حركة الحداثة الغربية هي التي أنجبت النقد البنيوي وما بعد البنيوي، وبعض أعمال بارت ودريدا التي هي نصوص أدبية حداثية بحد ذاتها، تجريبية وملغزة ومفعمة بالالتباس، ذلك أن ما بعد البنيوية لا تفصل فصلاً واضحًا بين النقد والإبداع، فكلاهما كتابة على حد سواء.‏

هزيمة لأحلام الأمة‏

هنا أيضًا يقول عصفور إن العقل العربي الأدبي الشاب لم ينشغل منذ أواخر الستينيات وما بعدها انشغاله بقضية أخرى مثل قضية الحداثة والتي رأي فيها حلاً للمستقبل، وسبيلاً واعدًا للخروج من مأزق التخلف الذي زرعته في النفوس، على امتداد الوطن العربي كله هزيمة يونيو 67، والتي لم تكن هزيمة لمصر وحدها، وإنما هزيمة لأحلام الأمة العربية كلها.‏

وفيما يتعلق بمجلة فصول، يقول عصفور إننا حين نؤرخ للنقد العربي الحديث سنجد أن مجلة «فصول» تمثل علامة فارقة، ليست دالة على الانقطاع المعرفي، وإنما المغايرة المعرفية بين ما قبل فصول وما بعدها، وذلك على مستوي اللغة النقدية والمفاهيم والمصطلحات وطرائق المعالجة والتحليل. وعودة إلى الحداثة يقول عصفور هكذا كانت حرجة الحداثة العربية كما كانت البنيوية وما بعدها من تيارات مرادفة أو موازية، تأسيسًا لنوع جديد من الخطاب النقدي سرعان ما أخذ يجمع بين المشرق والمغرب، وذلك على نحو تحولت البراعم الواعدة فيه إلى إنجازات نقدية عربية مغايرة تمتد من أقصى المغرب إلى أقصي المشرق، في أكبر موجة من موجات الحداثة العربية التي كانت بدورها رد فعل على كل ما أدى إلى هزيمة 67 فكريًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا في آن. هنا أيضًا يطرح عصفور سؤالاً يتعلق بجاك ديريدا وهو هل ترك ديريدا أثرًا ملموسًا حقًّا في النقد الأدبي في عالمنا العربي؟ ولماذا تبدو البنيوية، إلى الآن، أكثر تأثيرًا منه بمراحل ومراحل؟‏

في معركة الحداثة يؤكد عصفور أننا في عالمنا العربي نستقبل بالقبول المطمئن الفكر الذي يردنا إلى نسق نفهمه ونستريح إليه، بوصفنا عنصرًا معقولاً من عناصره المنتظمة، ونستريب في نقيض ذلك من فكر يلقينا في هوة تيه بلا مركز أو علة أو معنى ثابت، كي يتركنا في عالم سيّال، متقلب، لا ينفك يهدم ما يبنيه، فلا يبقى فيه سوى الإرجاء والكشط، ونحن نبحث عن موطئ قدم من أرض صلبة. هنا أيضًا يتحدث عصفور عن كتاب عبد العزيز حمودة «المرايا المحدبة» متسائلاً لماذا فوت مؤلف «المرايا المحدبة» على نفسه الفرصة الذهبية في النيل من البنيوية بعامة، ونقد رولان بارت خاصة؟ رائيًا أن هذا الكتاب كان في غنى عن التعرض للحداثة وما بعدها لتحقيق هدفه المباشر وهو الهجوم علي الكتابات العربية التي تأثرت بالبنيوية تحديدًا في مرحلة من ممارساتها النقدية.‏

هنا يُسائل عصفور «المرايا المحدبة» وينشر حواره مع محمد شعير محرر جريدة أخبار الأدب، كما نقرأ تعقيب د. حمودة على حوار عصفور مع شعير. كما نقرأ تعقيبات على هذه المساجلات لكل من محمد شاهين، يمنى العيد، محمود أمين العالم، شوقي بغدادي، حلمي سالم، محمد بدوي وغيرهم. وفي الأخير وبعد أن يطرح عدة أسئلة تتعلق بالحداثة في كتابه هذا الذي يحتاج إلى قراءة متأنية واعية، يقول عصفور إن الحداثة هي أن تبدأ من حيث انتهى الآخر، لا على سبيل التقليد، إنما على سبيل الإضافة والابتداع الذي يبدأ من سُنن زمنك وشروط مكانك.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية