تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الحداد صانع الأمان والجمال

2018/11/27
د. محمود شاهين :ملحق ثقافي

(الحدادة) حرفة قديمة ـ جديدة مارسها الإنسان منذ اكتشف خامة الحديد، وجيّر استخداماتها لأكثر من هدف وغاية ووسيلة ملازمة لممارسة حياته، وتأمين متطلبات عيشه، من أكل، وشرب، وصيد، وحرث، وزراعة،

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

ودفاع، وحماية، وفيما بعد، تأمين المسكن، وصناعة الجسور والعربات والرافعات ووسائل النقل المختلفة، إضافة إلى أعمال تزيينيه جماليّة عديدة، ووظفها في أكثر من مرفق في حياته اليوميّة.‏‏

عربي وإفرنجي‏‏

كغيرها من المهن والحِرف، بدأت الحدادة بسيطة، معتمدة على الجهد العضلي للحداد، يسعفه (كور) بدائي من النار، لتليين هذه الخامة وتشكيلها على هيئة محراث (سكة) وعزّاقة (منكوش) وشاكوش وقدوم ومنجل وكاسوحة ومدفأة، ومنقل للفحم، وسيخ، وسكين، ورمح، وسيف، وجنزير، وأصفاد، ونوافذ، وأبواب ... الخ. ثم تطورت وسائلها، فانوجدت الأفران، والأفران العالية الحرارة القادرة على إذابة هذه الخامة، وتشكيل ما يريد الإنسان منها، بدقة، وأناقة، وإتقان، وجمال.‏‏

عرفت بلادنا العربيّة هذه الحرفة ضمن محال مفردة، أو ضمن تجمع كبير عُرف بـ (سوق الحدادين) وارتبطت أسماء بعض الأسر بها (الحداد) وهي كنية شائعة وموجودة في بلادنا وبلاد العالم أجمع. البسيط والبدائي منها ما أطلق عليه لقب (حداد عربي) أي الحِرفي الذي لا زال يصنع الأدوات البسيطة اللازمة للزراعة والنجارة والعمارة والاستعمالات المنزليّة المختلفة، بوسائل بدائيّة قوامها الجهد العضلي. أما المتطور منها فأطلق عليه اصطلاح (حداد إفرنجي) وهو الصانع للأبواب والنوافذ والزخارف والدربزونات والخزانات والأسيجة وغيرها، بجهده العضلي وبأجهزة وآلات يدويّة وكهربائيّة، كالمقصات، والملاحم، واللاويات، والمخارط وغيرها.‏‏

تاريخ طويل‏‏

تشير الدراسات، إلى أن الإنسان اكتشف الحديد عن طريق الصدفة، تماماً كما هو الحال في عملية اكتشاف النار، وقد ارتبط الاثنان معاً وتلازما، لحاجة الحديد لكي يُليّن ويتشكل إلى النار. لهذا فقد انوجدت الأدوات الحديديّة الأولى التي كشفت عنها الحفريات الأثريّة، في المناطق التي كشفت فيها النار. وهذه المناطق موزعة في الأجزاء الجنوبيّة الغربيّة من قارة آسيا،‏

‏‏

وبالتحديد في بلاد الشام. وكذلك في الأجزاء الشرقيّة والشماليّة من قارة أفريقيا، وهي المناطق التي كان فيها الإنسان يقوم بإحراق الأخشاب المتنوعة، ضمن حفر في الأرض، كانت تحوي على فلز الحديد الخام، ما كان يؤدي، مع شدة الحرارة، إلى صهرها على هيئة كتل عفويّة الشكل، صلبة وقاسية.‏‏

وهكذا بدأت رحلة الإنسان مع الحديد، تماماً كما بدأت رحلته مع الزجاج الذي اكتشفه الفينيقيون بطريقة مماثلة، وبمحض الصدفة، ولعل غالبية الاكتشافات العلميّة تمت بهذا الشكل. يُشير المؤرخ الأمريكي (ج. ب. جيل) في كتابه الذي وضعه حول الفولاذ المستخدم في صناعة الأدوات، إلى أن هذه الخامة تم معالجتها وتشكيلها نحو عام 350 قبل الميلاد، عند بعض القبائل الجبليّة شمالي الهند، بوساطة أفران خاصة، وبالطريقة نفسها تم صناعة الفولاذ في دمشق.‏‏

طريقة صنع الفولاذ‏‏

تتم عملية صناعة الحديد أو الفولاذ، بترقيق شرائحه عن طريق الطرق، ثم تُلف وتُسخن بالحرارة، وتُطرق وتقسّى بعمليات السقاية، وهذه الطريقة لا زالت متبعة في غالبية دول العالم.‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

يُشير الباحثون إلى اكتشاف أدوات حديديّة في الأهرامات المصريّة، قُدّر عمرها بنحو خمسة آلاف عام. أما في بلاد الشام، فتعود صناعة الحديد إلى نحو 1200 عام قبل الميلاد، وفي أوروبا إلى نحو 800 سنة قبل الميلاد، وفي إسبانيا إلى نحو 400 سنة قبل الميلاد، وقد قدمت صناعته إلى هذه الدول من الشرق.‏‏

ولقدم وأهمية الحديد في حياة الإنسان، ارتبط بالأساطير، وجاء ذكره في الكتب الدينيّة، من ذلك أسطورة (فولكان) إله البراكين الذي حدد الأسلحة لأخيل كي يقاتل بها أعداءه، وارتباط الحديد بالبراكين، مرده قيام النار الشديدة التي يولدها البركان بصهره وتشكيل فلذاته. وفي القرآن الكريم، إشارة إلى الحديد ومدى المنافع التي يقدمها للناس. فقد جاء في الآية 25 من سورة الحديد قوله تعالى: (لقد أرسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز).‏‏

الحدادة قديماً وحديثاً‏‏

استعمل الحداد قديماً وحديثاً، أدوات محددة لتشكيل الحديد وصنع أدوات استعماليّة عديدة منه، تحتاجها الزراعة، والصناعة، والحِرف المختلفة، والعمارة،‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

والحياة اليوميّة في المنزل، منها النار، المطرقة، السندان. ثم جاءت الوسائل الحديثة مع النهضة الصناعيّة الكبيرة في القرن الثامن عشر، حيث بدأ عصر البخار، ثم عصر الكهرباء واستخدام النفط وولادة المحركات الانفجاريّة ذات الاحتراق الداخلي، ومعها تطورت وتسارعت عمليات استخراج المعادن المختلفة وصهرها وتشكيلها، الأمر الذي انعكس إيجابياً على عمليات الحدادة بكل فروعها، وعلى أدواتها ووسائلها أيضاً، حيث ظهرت المطارق الآليّة الكبيرة، والقاطرات، وسكك الحديد، واللحام بالكهرباء، وسكب الحديد بالطرق الحديثة. وهكذا تطورت صناعة الحديد من الكور البسيط، والمطرقة، والسندان، إلى طريقة كبس المعادن وتشكيلها بالضغط السكوني (الستاتيكي Pressage) والطرق الحركي (الديناميكي Martelage)، حيث يتم تشكيل المعادن من خلالها، بطرائق البثق، والبلص، والطبع، والختم والبرشمة، والتثقيب، والتخريق، وعمليات القص والتقطيع بأنواعه، والدرفلة، والسحب، والحلزنة، وعمليات الحني والتقويس والثني. هذا التطور الكبير في مجال الحدادة، أدى إلى قيام ثلاث حرف رئيسة في هذا المجال هي: السباكة وصهر المعادن، الحدادة وتشكيل المعادن بالمعادن واللحام، والخراطة والتسوية.‏‏

وللفن نصيب من المعادن‏‏

استفاد الفن التشكيلي مبكراً من المعادن، لاسيّما منه فن النحت، حيث أنجزت التماثيل من مادة البرونز المُشكّلة من خلطة النحاس والتوتياء، ثم من الحديد، بطريقة الصب، أو بالتشكيل عن طريق القص والطرق واللحام أو بتدوير النفايات الصناعيّة (الخردة) في تشكيل تماثيل فراغيّة ونصب تذكاريّة.‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

كما شهدت فنون عديدة منها: الرافديّة، والمصرية القديمة، والإغريقيّة، والرومانيّة، والبيزنطيّة، والقوطيّة، وفن الشرق الأقصى كالصيني، والهندي، والياباني، وفن أمريكا الشماليّة، والفن الإسلامي، استخدامات مختلفة، للمعادن، ما يؤكد اكتشاف الإنسان المبكر لها، وبراعته في توظيفها في أكثر من مجال استخدامي وفني جمالي.‏‏

اليوم، وبتأثير التدفق المعرفي الهائل الذي طاول كل شيء في حياة الإنسان المعاصر، توفرت أمام الفنان التشكيلي خيارات كثيرة، لاستنهاض منجزه الفني، بهذه المادة، أو تلك الخامة، مستعيناً، بوسائل وأدوات متطورة، كآلات القص واللحام الكهربائي والليزري، ومستخدماً للعديد من المعادن، في إنجاز أعماله الفنيّة الحُجريّة الصغيرة، والنُصبيّه الكبيرة، سواء بأسلوب الصب، أو القص والطرق والجمع واللحام أو تدوير الخردة. أي طريقة التشكيل المباشر بالمعادن، ويقوم الفنان التشكيلي المعاصر، بمواكبة مجتهدة للتطور التقاني، بهدف الاستفادة منه في تحقيق أعماله الفنيّة المتأرجحة بين التمثيل الآلي للجماليات الفنيّة، والتمثيل التعبيري التقليدي، لذلك من الأهمية بمكان، قيام الفنان التشكيلي المتعامل مع هذه التقانات الحديثة، بإغناء ثقافته البصريّة والتشكيليّة، للوصول إلى أقصى حالة من التفاعل والفهم بينه وبينها،‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

من أجل خلق حوار حقيقي وصادق، حول فكرة العمل ونتيجته. أي حول تصميمه المعدني وصلته بالفراغ الذي سيشغله، بحيث تنسجم فيه هذه الجسمانيّة المعدنيّة مع روح المكان، وتبتعد عن فكرة العنصر المجرد في الهواء، تكريساً لثقافة فنيّة عالميّة، تراكمت عبر مراحل تاريخيّة حضاريّة عديدة، ساهمت فيها الشعوب والأمم كافة.‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية