وحجتها انه قد خرج عن الأهداف التي قامت الثورة من أجلها لكن الحقيقة هي أبعد من ذلك بكثير، إن الرئيس لم يخرج عن أهداف الثورة بل هم كانوا ضحية ماكينة دعائية ضخمة أعدتها ونفذتها مراكز أميركية متخصصة في زعزعة الاستقرار وقلب نظام الحكم في الدول التي تختارها الإدارة الأميركية هدفاً لها.
إن السبب الأساسي لنجاح هذه الثورات هو اعتمادها برنامجاً متكاملاً للتحكم بوعي الجماهير يعتمد على أفضل ما توصل إليه علم النفس الاجتماعي من نتائج تعتمد على وسائل تكنولوجية متطورة تسمح بتوجيه دعاية مركزة موجهة إلى ملايين الناس في آن واحد. لقد كان القرن العشرون قرناً مفصلياً في مسألة التحكم بالوعي الاجتماعي وتشكل علم يدرس هذه المسألة وهو علم النفس الاجتماعي والذي وضع حجر الأساس له غوستاف ليبون في تعاليمه عن جموع الناس أو الجمهور وتطوير تطبيق عملي متواز هو تشكل الجمهور أي تحويل أعداد كبيرة من الناس إلى رعاع والتحكم بهم.وتشكلت كذلك مؤسسات قادرة أن تضع مسرحية سياسية لم تعرف من قبل من حيث اتساع نطاقها على شكل أفعال جماهيرية ومتفرجين وعلى شكل استفزازات دموية وظهرت أنواع غريبة من الفنون تؤثر بشكل قوي على الحالة النفسية للأفراد.
إن استخدام تكنولوجيا المسرحية السياسية أصبح الطريقة المناسبة للاستيلاء على السلطة وقبل كل ثورة من هذه الثورات الملونة كانت تجري دراسة أولية لثقافة المجتمع المستهدف والذي سيجري فيه قلب نظام الحكم، وعلى أساس هذه الدراسة تنتقـى الوسائل الفنية وتكتب السيناريوهات ويجهز مخرج المسرحية، وإذا كان الاستيلاء على السلطة سيجري أثناء الانتخابات فإن الطريقة الفعالة هي تأسيس حالة نفسية قصوى للإيهام بقذارة الانتخابات كي يبرز إحساس عام بتزويرها، وهنا يبرز مجال واسع للحيرة والتردد في اتخاذ الموقف المناسب وهذا ما يعطي المبرر والحجة للمسرحية الكثيرة في الساحات العامة.
لقد أشار علماء الاجتماع منذ زمن أن الوعي عند الإنسان يتبدل بحدة عندما يكون على احتكاك مباشر مع جماعة كبيرة من الناس، لقد كتب نيتشه يقول: عندما يجلس مئة شخص بجوار بعضهم البعض يفقد كل شخص بصيرته ويتلقى بصيرة ما أخرى، وعدّد ليبون في كتابه علم نفس الجماهير بعض خصائص الرعاع كتجمع بشري يعيش لفترة قصيرة أهمها:
تختفي في الرعاع الشخصية الواعية أي أحاسيس وأفكار الأجزاء المنفصلة وتتشكل شخصية كاملة تتقبل اتجاها واحداً وتتشكل روح الجماعة ذات الطبيعة المؤقتة طبعاً لكن بسمات محددة جداً، حيث إن الفرد الذي يوجد مدة من الزمن وسط رعاع ولسبب ما غير معروف ينتقل بسرعة إلى حالة تذكر كثيراً بالشخص المنوم مغناطيسياً.
- إن الفرد ضمن الرعاع يتكون لديه إدراك قوة لايمكن تخطيها وهذا الوعي يسمح له أن يستجيب لتلك الغرائز التي لا يمكن أن يستجيب لها بإرادته عندما يكون وحده، أما عندما يكون ضمن الرعاع يكون أقل ميلاً لإعاقة هذه الغرائز لأن الرعاع مجهول ولا يتحمل المسؤولية، حيث يختفي تماماً الإحساس بالمسؤولية ضمن الرعاع والذي دائماً ما يعوق أفرادا منفصلين عن هذا التصرف أو ذاك، إن الإحساس داخل الرعاع معدي إلى درجة تجعل الفرد يضحي بسهولة كبيرة بمصالحه الخاصة لصالح مصالح الجماعة وهذا يناقض عملياً الطبيعة الإنسانية ولذلك فإن الفرد قادر على تنفيذها فقط عندما يكون ضمن الرعاع، يستخدم السياسيون في توجههم إلى الرعاع أثناء تلك الثورات كل الوسائل الأساسية للتحكم بالوعي يمكن اعتبار أولى هذه الوسائل هو التكرار الدائم لكلمات المناشدة السحرية التي توقظ في الرعاع طريقة تفكير معينة مرتبطة بهذه الكلمات كتب ليبون قائلاً: إن قوة الكلمات مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتصورات التي تستدعيها هذه الكلمات ولا ترتبط مطلقاً بمعناها الواقعي وغالباً ما تؤثر تأثيراً كبيراً على الرعاع, تلك الكلمات التي ليس لها معنى محدد مثل مصطلحات الديمقراطية والمساواة والعدالة والحرية التي لا تتمكن مجلدات كبيرة من شرح معناها بدقة.
لقد أخذت الولايات المتحدة بعد انحلال الاتحاد السوفييتي تستخدم هذه الثورات كوسيلة للاستقطاب الجيوسياسي لمنع نشوء أو قيام أي قطب جديد منافس لها على الساحة الدولية كان ذلك في الدول التي دارت في فلك الاتحاد السوفييتي السابق أو في مناطق أخرى ترى الولايات المتحدة أنها تشكل خطراً عليها، لقد ورد في تقرير المركز الأميركي- الإسرائيلي للتنبؤات الاستراتيجية ستراتفور في حال فقدان روسيا لأوكرانيا فإن جورجيا ستصبح الدولة المسيطرة في القوقاز، أما الأحداث في قيرغيزستان فستنسحب على دول اسيا الوسطى كلها وستصبح مسألة استمرار روسيا على قيد الحياة مسألة يشك بها، سنصبح شهود عيان على الانحلال الثاني عندما ينفصل عن روسيا جزء منها إن روسيا التي نعرفها اليوم سوف لا تكتب لها الحياة.
لذلك نرى مصدر أهمية تركيز الولايات المتحدة على إحداث الثورات الملونة في كل من جورجيا وأوكرانيا وقيرغيرستان لأن تمكنها من احتواء روسيا ودول القوقاز وآسيا الوسطى سيساعدها وخاصة إنها تحتل أفغانستان ليس فقط من منع روسيا أن تكون قطباً منافساً في المستقبل على الساحة الدولية بل ومنع الصين أيضاً، لذلك فإن هذه الثورات الملونة التي حصلت أمام أعيننا لم تطرح أبداً حلولاً للمسائل الاجتماعية والاقتصادية بل على العكس, أدت إلى ارتفاع حاد في نسبة البطالة وإلى زيادة أكثر من 30٪ في أسعار المواد التموينية نتيجة عزلها عن فضائها الاقتصادي الذي تشكل مدى قرون من الزمن، ومن الطبيعي جداً أن تعود الناس إلى الشوارع في حال توفرت لديها قيادة واعية ووطنية لاستدراك الأخطاء المرتكبة، وألا يكون ذلك ورطة جديدة لاستبدال رئيس استهلك سياسياً بآخر لإتمام ما عجز عن تنفيذه سلفه.