الأرقــــــش والغجــــرية
ملحق ثقافي الثلاثاء21/2/2006 حـنــــــــــا مينـــــــــا رئيفة تضع رأسها على ركبة الحكيم بشير، أنفاسها جذوة تحرقه، شعرها الطويل، المنسدل على كتفيها، يلهب أنامله، شفتاها المنفرجتان عن أسنان بيض، في انتظام لانتوء فيه، حارتان بعد البكاء، وشهيتان بسبب هذا البكاء،
تلامسان جسده، وقد سألته، قبل أن تصاب بالنوبة الهستيرية: «تتزوجني!؟» فلم يجبها، طال انتظارها ولم يجبها، تساءل: «تتزوجني لأنها تحبني؟لا! تتزوجني، ككل امرأة، لابد لها من زوج؟ لا، نعم، من يدري، الأرجح، ياحكيم، إنها تنشد حمايتك، فهل أنت قادر أن تحميها؟
لماذا فعلت ما فعلت؟ لماذا أطلقت النار على الأرقش؟ ولو مات الأرقش ماذا يكون عقابها؟ وماذا يكون موقفي، أنا زوجها، منها؟ أسامحها؟ أغضي عن جريمتها؟ آخذها بجريمتها؟ أضع نفسي حيث يجب ألا توضع؟ هذه حواء العصر، وأنا، في نظرها، آدم العصر، فماذا بعد أكل التفاحة ياحواء؟ ننزل، أنت وأنا، إلى الجحيم؟ إن لك عقلاً شيطانياً، وهذا العقل وضع في حسابه، أنني سأكون، بعد موت الأرقش، أنا الأرقش، أنا من يقود الآخرين، وأنا من آمرهم فيطيعون، وعندما أكون الآمر، تكون هي في أمان، لأنها زوجتي، وعندئذ تنجو من أخذها بذنبها، وهذا غير ممكن، لأن هناك، سمعتي، في كفة،ونزاهتي في كفة، وكان عليها أن تكون موقنة، أنني لا أتخلى، حتى لأجلها، عن هذه النزاهة، وأنني، أيضاً، لا أستطيع، لأن هناك قمطرة، وقمطرة رهيبة، لن تدع دم الأرقش يهدر، وستأخذني بجريرتي، ويقف الصيادون في صفها، وأفقد بذلك حكمتي وشرفي، أضيع،ولأجل أي شيء؟ لأجل امرأة، هل تضيع ياحكيم في سبيل امرأة، وأنت في هذه السن!؟ لو كنت شاباً لكان لي بعض العذر، ولقالوا أنه طيش الشباب، إلا أنني كهل، ولي قضية، ولي حكمة، وكل تصرف لايراعي هذه الأمور، يجعل الصيادين على يأس من وجود انسان يأخذ بيدهم، ويحافظ على قضيتهم، ويضحي في سبيلها.. آه ما أصعب موقفي، وما أشد بليتي، وما أكبر مسؤوليتي.. اللعنة على الحكمة، وعلى الحكيم، وعلى البلاء الذي ابتليت به!» صاح هدهد: رباه، عفوك، إني كافــــــــــــــــــر جــــــــــانِ جوّعت نفسي، واشبعت الهوى الغاني أردف هدهد آخر: تبــــــــــــــعتُ في الناس، أهواءً محرمةً وقــــــــــــــــلت للناسِ، قولاً عنه تنهاني بكى الحكيم من لوعة،من حسرة، من اشفاق على نفسه وعلى رئيفة،من صدق ما قاله الهدهدان،من الورطة التي هو فيها، من الصراع الداخلي بين عقله وقلبه، من التقريع الضميري، من انطباق ما سمع، عن تجويع النفس، واشباع الهوى الفاني،وتساقطت قطرات من الدمع،على الجانب المائل،المكشوف،من وجه رئيفة، فاستشعرت إثماً شائناً،لاعجاً، في الحنايا من صدرها، لأنها كانت السبب في إيذاء الحكيم مرتين: الأولى عندما اسقطته في ماء النبع، والثانية عندما التجأت إليه، ناشدة حمايته، فتسببت له في حرج وعذاب، بكى، لذلك رفعت رأسها قليلاً، وسألته بصوت واهن: -اتبكي ياحكيم؟ قال الحكيم مدارياً ما به: -لا! لا ابك يارئيفة! -وهذه الدموع؟ -من دخان السيكارة الذي حرّ احدى عيني. -أريد أن أصدقك لأنك لاتكذب،وأشك في قولك إشفاقاً علي.. أنا،الآن، اعترف: أحبك ياحكيم! نعم! أحبك، وآسف على مابدر مني حيالك..ولكن ماذا ينفع الحب وأنا سائرة إلى الاعدام؟ قال الحكيم بهدوء ورصانة: -لن تعدمي يارئيفة! - بلى! أعرف.. وهذه الدموع رثاء مسبق، تكفي لتعزيتي قبل الفراق الأخير! -أقول لك لن تعدمي،وأنا لاأبكي لأجلك! - أنت تبكي شبابي، الذي أخطأ ولم يعانق كهولتك قبل فوات الآوان!هل تحبني الآن، كما أحبك الآن؟ قل: أحبك! وهذا يكفي. -أحبك يارئيفة! -الآن وفي كل أوان!؟ -الآن وفي كل أوان!؟ -وستبكي علي؟ -إنني منذ الآن أبكي! - وهل ستضع زهرة على قبري؟ - سأضع زهوراً على قبرك. -وستزوره؟ هتف هدهد: لولا الحيـــــــــــــــــــــــاء لنالني استعبار ولزرت قــــــــــــــبرك والحـــــــــــــــبيب يزارُ سألت رئيفة: -هل سمعت الهدهد ياحكيم؟ -سمعته يارئيفة! - سأموت، إذن، مرتاحة. ناح الحكيم وهو يضمها إلى صدره: -لا!لن تموتي، أو نموت معاً، توقفي عن ابكائي وإلا لفضحت نفسي! -سأكف، لأنه ليس لي ماأقوله بعد.. الوداع! كان الأرقش قد وصل، وكان يقف وراء الحكيم بشير منذ وصل،وكان، رغم جبروته، يبكي، لأنه لم يستطع إلا أن يبكي،لا لأن رئيفة تحب الحكيم، بل لأنه أحب رئيفة ذات يوم، ودفعها إلى الجنون في يوم آخر، والآن هي هادئة، فهل يدعها هادئة ويمضي؟ يختفي من حياتها، بعد أن ظهر في حياتها؟ يقول لها: «سامحيني يارئيفة؟ وهل تسامحه رئيفة؟ إنه الجاني الحقيقي، وهي المجنى عليها حقيقة،فهل يملك الجرأة ليقول ذلك في المحكمة؟ وإذا قال ذلك غير هيّاب، فما تأثير ذلك على الحاضرين؟ وأي ضرر سيلحق بالقضية؟ وأيهما الأحق بالرعاية: رئيفة أم القضية؟ لا! القضية! إنني مع القضية، وسأبقى شامخاً لأجلها، مكافحاً في سبيلها، حتى لايقال أن الحب أقوى، مع أن الحب أقوى، غير أن الحب ألوان، وحبي لها لون من هذه الألوان، ولم يفت الوقت بعد، كي أقول لها كلمات لطيفة، مؤاسية، مشجعة، وكما يليق بي، سأسقط غداً حقي الشخصي، سأقول بصوت عالٍ،ليس لي حق شخصي على هذه المتهمة، الحق على الحب، فحاكموا الحب إذا استطعتم، ولن تستطيعوا، لأن الحب هبة السماء إلى الأرض، ونعمة الباري لبني البشر». تقدم الأرقش نحو الصخرة،أطرق الحكيم وهو يجلس على الصخرة، كان خجلاً من الأرقش،وكان الأرقش خجلاً منه،وانتبهت رئيفة على يد تنث حرارة، تداعب وجنتها، تمسح بالحنان وجنتها، وصوت حدب يقول لها: -أنا الأرقش، يارئيفة، فهل تذكرين الأرقش بعد يارئيفة؟ انكمشت رئيفة، وبدلاً من أن ترفع رأسها عن ركبة الحكيم، ضغطت به على هذه الركبة،وراحت تبكي وهي تصرخ: -ماذا جئت تفعل هنا؟ قال الحكيم بشير: -جاء ليراك. أفلا تريدين أن تريه؟ -لا! لا أريد أن أراه، أنا لست بحاجة إلى كلمة وداع منه. قال الأرقش: -لم آت مودعاً، ثم لماذا الوداع يارئيفة؟ جئت مكفراً عن ذنب ارتكبته، أفلا تقبلين تكفيري عن ذنبي؟ -لا أقبله، ولن أقبله، بعد أن جنيت علي. قال الحكيم بشير: -وبماذا جنى عليك؟ - بحبه! -المسؤول، في هذه الحال، هو الحب. -بل خيانة الحب! -الأرقش لم يخن في حبه، كان مشغولاً عن حبه بقضيته، قضيتنا جميعاً، وهذا ليس خيانة. -أنا التي خنت، إذا ما كانت القضية فوق الحب.. إنني أحبك أنت ياحكيم، وأكره الأرقش الذي أدى بي إلى هذا المصير، وسأعترف غداً بكل شيء، هل تسمع ياأرقش، بكل شيء.. رد الأرقش: -وأنا سأقول أنني المسؤول عن كل شيء. لقد أخطأت فوضعت القضية فوق الحب، وكان علي أن أعرف حق القضية وحق الحب، فلا أخلط بينهما، إلا أن العمل مقرون بالخطأ، ومن لايعمل وحده الذي لايخطىء، وأنا عملت فأخطأت، وكان من الصواب أن تطلقي النار علي،أخذاً بثأرك مني على خطئي.. انظري إلى فقط.. سامحيني لأني، بنيتي الطيبة، أستحق هذا السماح! -لن أسامحك! -وأنا لن أحقد عليك إذا لم أنل هذا السماح.. وعلى كل أنا هنا، إلى قربك، ليس لأجل السماح أو عدمه..أنا هنا لأقول لك أنك لن تعدمي.. ولماذا الاعدام ومن أدخل فكرته في رأسك؟ وإذا لم يكن هناك اعدام، فلماذا الوداع؟ أنا ما جئت مودعاً، جئت مباركاً.. الحكيم بشير يستحق حبك، وأنت تستحقين حبه، ولم تبق إلا المباركة، وأنا هنا لأبارك، صدقيني. قال الحكيم بشير: -عندما تكون هناك تضحية، فأنا أول من يضحي.. من منا تختارين يارئيفة؟ قالت رئيفة بحسم: -أنت ياحكيم! وقال الحكيم وهو يقبلها في جبينها: - شكراً يارئيفة.
|