ولكم منه ماقاله سيبوبه وأبو الأسود وابن عقيل ومن جاء قبلهم وبعدهم من المضجرين المملين ولي منها ما تقوله الأم لطفلها.. والمحب لرفيقته، والمتعبِّد لسكينة ليله».
لعلّ جبران خليل جبران بهذه الكلمات لخص موقفه من اللغة العربية وما يريده منها فأتت مفرداته حانية كأم، محبة كعاشق.. مغرقة بالحكمة والبعد الإنساني الذي طغى على روح جبران الشفافة.. من هنا نستطيع أن ندخل عالم جبران اللغوي لنرى مع أ. أحمد الخوص- الذي قدّم لنا محاضرة غنية بمحتواها حول اللغة العربية.. وطرح مجموعة من التساؤلات كان أهمها.. مادور اللغة العربية في الحفاظ على هوية هذه الأمة؟.
جبران وعربيته
يقدم لنا أ. الخوص فكرة واضحة عن جبران ومدى إسهاماته في رفد اللغة العربية بروائع الأدب والتي ستبقى شاهد عصر على ماقدمه هو وغيره في هذا المجال.. لقد كان جبران صلة وصل حقيقية بين المغتربين العرب في المهجر وطنهم ولغتهم الأم.
تهمة جبران
أ. الخوص ذكر أن مجموعة تهم وجهت لجبران ومن بينها دعوته إلى اللهجة العامية وضعفه في العربية والنحو واستعماله لبعض المفردات العامية في كتاباته ويذكر رأي جبران في ذلك بقوله: «إن اللغات تتبع- مثل كل شيء آخر- سنة البقاء للأنسب وفي اللهجات العامية الشيء الكثير من الأنسب الذي سيبقى، لأنه الأقرب إلى فكرة الأمة، وأدنى إلى مرامي ذاتها العامة، قلت إنه سيبقى، وأعني بذلك أنه سيلتحم بجسم اللغة ويصير من مجموعها».
إذا اللغة- وحسب رأي أ. الخوص- التي يتكلمها شعب من الشعوب الاختلاف فيها موجود بين مدينة وأخرى.. وكلام البشر يختلف تبعاً لظروف البيئة، المناخ ومجموعة عوامل أخرى يتأثر بها الناس.. فالاختلاف لايقع فقط على الشكل الخارجي وتنوعه بل أيضاً على اللغة.. ومرد معظم اللهجات العامية بالأصل إلى اللغة الفصيحة.
موقفه
أما عن رأي جبران باللغة العربية وموقفه من قديمها في الأدب العربي وأعلامه فما هو إلا شحذ للقرائن والنفوس للتجديد في الألفاظ والتعابير.
ويأتي نقده للبديع والبيان والمنطق لسيبويه وابن عقيل وآخرين دعوة لمسايرة روح العصر.. وحسب الحديث الشريف «من تساوَ يوماه فهو مغبون».
إن ثورة جبران على قديم اللغة ماهو إلا تجديد في اللغة التي نعشق.. جبران عاشق في قلب مجتمع الغرب ونهل من آدابه الشيء الكثير.. الذي انعكس على مؤلفاته وغيرت في نمط كتابته وأثرتها.
روائع جبران
لكي ننصف جبران.. والذي أنصفه بحق أدبه ماقدمه من روائع نلتقط مجموعة من المقولات التي استعرضها أ. الخوص لجبران حول اللغة: «لكم لغتكم عازفاً يتناولكم عوداً فيضرب عليكم أنغاماً تختارها أصابعه المتظلفة، ولي من لغتي قيثارة أتناولها، فأستخرج منها أغنية تحلم بها روحي وتذيعها أصابعي».
ومن روائعه مقولته: «والآن وقد طلع الفجر، أتحسبون أنني أشكو لغتكم لأبرر لغتي؟ لا والذي جعلني ناراً ودخاناً بين عيونكم وأنوفكم».
ويقول جبران «في اللغة العربية خلقت لغة جديدة داخل لغة قديمة كانت قد وصلت حداً بالغاً من الكمال..لم ابتدع مفردات جديدة بالطبع بل تعابير جديدة واستعمالات جديدة لعناصر اللغة».
من تهم جبران التي ألصقت به ضعفه باللغة واستعماله لبعض الكلمات العامية.. حيث ذكر المحاضر نماذج من كتاب جبران واللغة العربية للدكتور إميل بديع يعقوب.. حيث الدلالة على عدم ضعفه في اللغة بالرغم من اتهام الآخرين له: فقد أخطأ د. عمر فروخ جبران في استعماله كلمة مستأنث بقوله:
ومن خفيف ومن مستأنث خنثٍ
تكاد تدمي ثنايا ثوبه الإبر..
ولم يذكر د. فروخ سبب تخطيء جبران بل اكتفى بوضع علامة الاستفهام بعد مستأنث.
وأيضاً استعمال جبران لفعل «تحمم» في المواكب يقول:
هل تحممت بعطر وتنشفت بنور.
في قوله «كأنها تتحمم في أشعة الشمس» فعاب عليه النقاد استعمال «تحمم» بحجة صوابها «استحم» وتحمم عامية ولم ترد في المعاجم.. ويخطىء د. محمد قاسم جبران في قوله: «وفي السماء أسخر بالطبيعة» بحجة الصواب (أسخر من الطبيعة).
مجموعة من الآراء النقدية التي تناولت جبران وأدبه واستخرجت منه مايُعاب عليه.. رغم أن الأدب يتحمل كل شيء.. ولربما كانت العامية في خدمتها للأدب أدت دورها.. فما الضير إذا استعملنا بعض المفردات العامية.. إذا كانت بعض الكلمات الفصيحة صعبة الفهم وعصية ..ويرى د. إميل بديع يعقوب يعلق على ماقاله جبران بالقول «وهكذا لايعالج جبران قضية لغة تدريس العلوم إلا من زاوية دور اللغة في الانتماء الوطني والقومي.. ولعل هذه الناحية أهم النواحي في هذه المسألة، فمن أهم وظائف اللغة كونها أحد مقومات الوطن والوطنية».
تبقى اللغة هي الرافع الحقيقي لتاريخ أمة والحاضن لكل أحداثها ومفاصلها المهمة ومهما طال اللغة من تجريح فستبقى عصية قوية، فقط نزيل الغبار لتلمع مفردات عربيتنا التي هي صميم هويتنا.