مع اختتام القمة وهدوء الخطاب الإعلامي الذي صاحب انعقادها , أجد من الضروري التوقف عند بعض القضايا المتعلقة بها من خلال عرض جملة من الانطباعات التي تكونت لدي كمشارك في وفد الجمهورية العربية السورية للاجتماعات التحضيرية للمجلس الاقتصادي و الاجتماعي التابع لجامعة الدول العربية , لإعداد الملف الاقتصادي و الاجتماعي الذي عرض على قمة دمشق . يسوغ تلك الضرورة سببان جوهريان أولهما التوثيق و ثانيهما التوضيح , فالأحداث الكبرى تحرض دائماً الباحثين للعودة إليها و تحليلها لاستخلاص العبر و النتائج منها . هذا ما قام به البعض من المهتمين في الأيام التي سبقت القمة , عندما عرضوا في وسائل الإعلام تاريخ القمم العربية ,و بعضاً من وثائقها , منذ قمة أنشاص التي عقدت في مصر عام 1946 الى قمة الرياض في السعودية عام 2007 . أما التوضيح فهو حق للمواطن العربي الذي تابع باهتمام مجريات القمة و ما توصلت إليه , دافعه لذلك الاطمئنان الى أن النتائج كانت متناسبة مع الآمال و التوقعات . عود على بدء أعرض جملة من الانطباعات ذات الصلة بقمة دمشق : من الناحية التنظيمية كانت القمة أ نموذجاً رائعاً لما يستطيع العاملون في مؤسساتنا الرسمية ( خاصة مراسم رئاسة الجمهورية و أجهزتها الأخرى ) القيام به من حسن التنظيم لقاعات المؤتمر و لياقة التعامل مع المشاركين ضيوفاً و سوريين ,وقد كان لذلك أثر طيب في نفوس الجميع , و هذا ما عبر لي عنه شخصياً العديد من رؤساء و أعضاء الوفود المشاركة . كما كان لإعلاميي سورية حضورهم اللطيف و المميز في قاعات المؤتمر و كواليسه ,فمن صحفي حاملاً جهاز تسجيله الى صحفية تنتقل بميكروفون و بجانبها مصور الكاميرا لا يملون من الحركة من الصباح حتى المساء , الجميع يتحرك بحيوية و نشاط و كأنه يريد أن يلتقي كل المشاركين ليس فقط مستوضحاً وسائلاً عما يجري في الجلسات المغلقة , بل مسلماً على ضيوف سورية و مرحباً بهم في دمشق القلب النابض بالعروبة منذ القدم مع الأمل أن يظل كذلك إلى الأبد .
أما بالنسبة لحوارات وفود الدول العربية في المؤتمر فقد كانت صريحة ورصينة . فعلى سبيل المثال استغرقت مناقشة موضوع إنشاء نظام أقمار اصطناعية عربي لمراقبة كوكب الأرض بيئياً و مناخياً - وفق قرار قمة الجزائر - نحو ساعتين حيث اختلفت في الموضوع و جهات النظر و تباينت الاراء , لكن ذلك كله كان في مناخ من المودة و الحرص ,و تم التعبير عنه بلغة حضارية و موضوعية بعيدة عن الحدة أو التعصب الأعمى لرأي أو موقف . فالجميع كان يبحث عن الأفضل , و في النهاية تم التوصل الى قرار متوازن رفع الى القمة لإقرار ما تراه مناسباً بشأنه , ملخصه اعتماد الدراسة الأولية للمشروع بكلفة تقديرية تبلغ نحو 120 مليون دولار أمريكي على أن تقوم لاحقاً بعض الجهات الفنية المختصة بالتوسع في تلك الدراسة آخذة بالاعتبار الملاحظات التي تقدمت بها الدول العربية الأعضاء في الجامعة .
أما مواضيع الملف الاقتصادي و الاجتماعي الأخرى الذي رفع الى القمة فقد كانت عديدة و غنية و تعود بفائدة كبيرة على المواطن العربي بعد الانتهاء من تطبيقها و يمكن تقسيمها الى قسمين :
أ- متابعة تنفيذ قرارات القمم السابقة
ب- بعض القضايا و المواضيع الجديدة
ففي مجال متابعة التنفيذ توقف المجلس عند عدد من القضايا منها :
> العوائق التي ما زالت تعرقل التطبيق الكامل لاتفاقية منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى : كبعض القيود غير الجمركية على حركة انسياب السلع بين الدول العربية الأعضاء في المنطقة - بعض الرسوم ذات الأثر المماثل للرسوم الجمركية - قواعد المنشأ التفصيلية للسلع العربية .
> الإسراع في تحرير تجارة الخدمات حيث جرى في العاصمة اللبنانية - بيروت عدد من الاجتماعات العربية لهذه الغاية ,هذا الأمر حيوي لتنشيط التبادل التجاري بين الدول العربية , إذ أن منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى تشمل حتى الآن التجارة بالسلع فقط مما يستدعي توسيعها لتشمل التجارة بالخدمات أيضاً أسوة بمنطقة التجارة العالمية , ذلك سينعكس بلا شك على تخفيض كلف الخدمات و ينشط عدد من القطاعات الاقتصادية في الدول العربية كالسياحة و النقل و المصارف .. و غيرها . مما سيكون له أثر إيجابي على المواطنين العرب و الاقتصاديات العربية عامة , و يزيد من فرص التواصل بين العرب, و يطور شبكة المصالح القائمة فيما بينهم و يعزز من موقعهم التفاوضي مع العالم الخارجي .
> المباشرة في اتخاذ الخطوات العملية لإقامة اتحاد جمركي بين الدول العربية , تمهيداً لإقامة السوق العربية المشتركة حتى عام 2020 حسب التقديرات الحالية .
و بالنسبة للمواضيع الجديدة التي تضمنها الملف فقد كانت عديدة وهامة , منها
استراتيجية تطوير السياحة العربية - الاستراتيجية العربية لتكنولوجيا الاتصالات و بناء مجتمع المعلومات - خطة لتطوير التعليم و البحث العلمي في الوطن العربي...
بقي انطباع أخير يتعلق بالمشاركة ,و هذا ما ركزت عليه و سائل الإعلام في الأيام القليلة التي سبقت القمة , حتى أن بعضاً منها تناوله بطريقة أوحت و كأن القمة هي فقط عدد الدول المشاركة و مستوى تمثيلها . هذه الطريقة في المقاربة الإعلامية - سواء أكانت بقصد أو بغير قصد - فيها اعتداء على أهمية القمة . فقمة دمشق كما هو واضح من العرض السابق بتحضيراتها و مناخها و موضوعاتها هي أكثر أهمية من أن تختزل الى أعداد الدول و أعداد قادتها الذين شاركوا أو تغيبوا ? هذا ما أوضحته الى الإذاعة البريطانية الناطقة بالعربية ( BBC ) في حوار طويل استمر نحو ساعة خلال الاجتماعات التحضيرية للقمة شارك فيه عدد من الضيوف ( عرباً و أجانب ) و من بينهم مندوب لوزارة الخارجية الأمريكية .
لكن و بمنطق ال( BBC) نقول: إن جميع الدول العربية باستثناء واحدة قد شاركت القمة , و إن عدد القادة الذين تواجدوا ( 11 ) هو ضمن الوسطي المعتاد في القمم العربية , حيث شارك في قمة الرياض ( 14 ) و قمة الجزائر ( 9 ) و قمة تونس أقل من ذلك .
هذا من حيث العدد لكن الأهم من العدد أن نتذكر أنه بغياب بعض قادة الدول غاب عن المؤتمر الحضور الأمريكي الذي مثله هؤلاء القادة تقليدياً.
ذلك يقودنا للاستنتاج بأن قمة دمشق كانت قمة عربية بالاسم و الفعل ,و ربما كانت القمة الأولى التي غابت عنها الرعاية الأمريكية . هذا ما أجده في ظروف العمل العربي المشترك نجاحاً بحد ذاته ,و قد يكون النجاح الأهم لقمة دمشق . هل يتحول نجاح قمة دمشق هذا الى تقليد في القمم العربية القادمة ?
ربما ......نقول ربما تيمناً بالقول المأثور: ( تفاءلوا بالخير تجدوه ) ?