وحتى نقف عند حدود هذا القرار الذي كانت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأميركي قد وافقت عليه مطلع العُشر الثالث من شهر آذار الماضي, لا بد من فهم علاقات قوى الضغط الإسرائيلية مع المرشحين الأميركيين إن كانوا للرئاسة أو للهيئة التشريعية في ومواسم الانتخابات, وهي التي تمتلك المال وكل وسائل التأثير بالرأي العام الأميركي من إذاعة وصحافة وتلفزة وسينما ومراكز أبحاث نافذة, كما أنه لا بد من وقفة مع معنى العلاقات الخاصة بين الجانبين الأميركي والإسرائيلي .
ولئن بدأت هذه العلاقة في عهد الرئيس ترومان الذي كان سبّاقا بإعلانه الاعتراف بالكيان الصهيوني ليل 14/15 من شهر أيار عام 1948 لقاء مليوني دولار تلقاهما وهو في قطاره الانتخابي, على ما يرويه George Lenczowski في كتابه الرؤساء الأميركيون والشرق الأوسط American Presidents and the Middle East ( 1990) ليتبع هذا المبلغ( هل نسميه رشوة? والتعبير الملطف لهاتبرّع) بتصريح قال فيه: ليس عندي ناخبون عرب, فإن هذه العلاقة, وعبر ستين سنة, هي عمر الاحتلال الإسرائيلي الأول, لا بل عملية التهويد الأولى لفلسطين, وتدفق الهجرات اليهودية إليها, مرت بمراحل ثلاث تحولت فيها إسرائيل من (عميل إلى وكيل, فإلى حليف إستراتيجي)
لقد بدت العلاقات في ذروتها في عهد الرئيس رونالد ريغان لتبلغ علاقة خاصة واستثنائية حين اعتبر الرئيس الأميركي إسرائيل ذُخرا استراتيجيا فريدا (2شباط 1981) وقال :(إننا لا نلتزم بإسرائيل التزاما خلقيا فقط , إن إسرائيل تشاركنا قيمنا العليا وتوجهنا الديمقراطي( هل من ديمقراطية مع الاحتلال?, وهي بجيشها المدرب على القتال قوة نافعة لنا فعلا, ولو لم تكن هناك إسرائيل القوية لكان علينا أن نبني هذه القوة بأنفسنا. إننا لا نمنّ على إسرائيل بشيء). هذا التحول في العلاقات الأميركية الإسرائيلية التي دخلت مرحلة التعاون الاستراتيجي ناجم عما أسماه نورمان فنكلشتاين اكتشاف أميركا لإسرائيل بعد حرب عام 1967 وكان من تجلياته أن
دخل الجانبان في اتفاقية للتعاون الاستراتيجي (أيلول 1981) وأقرت في 30 تشرين الثاني من ذلك العام., لتبلغ مداها يوم 30 حزيران 1993 بإعلان مبادىء صادر عن وزارة الخارجية الأميركية في عهد بيل كلينتون أسقط عن الأراضي المحتلة(الضفة والقطاع) صفة ) المحتلة( ليصفها بأنها أراض متنازع عليها disputed land وذلك خلافا لما ورد على لسان جيمس بيكر وزير خارجية الرئيس جورج بوش الأب الذي أبلغ الكونغرس بشقيه:النواب والشيوخ, بأن القدس أرض محتلة وينطبق عليها ما ينطبق على الضفة الغربية.
هذا الإطار العام للعلاقات الأميركية الإسرائيلية ينبغي ألا يبعث في نفوسنا الدهشة, وفي سياق هذه العلاقة ينبغي النظر إلى القرار الذي أصدره مجلس النواب الأميركي الداعي إلى اعتبار اليهود الذين غادروا البلاد العربية بُعيْد حرب عام 1948 لاجئين.
المصطلح يدعونا إلى الوقوف عند محدداته. اللاجىء هو من غادر أرضه وممتلكاته كرها لا طواعية. وثائق وزارة الخارجية المصرية تقول : اللاجيء الفلسطيني هو من تعرض للإكراه وغادر فلسطين قبل سنتين على الأقل من قيام إسرائيل وبعدها. وفي ذلك إشارة إلى القرى والبلدات العربية في فلسطين والتي دمرتها قوات الانتداب البريطاني والتي يقدر الدكتور وليد الخالدي عددها بثلاث وستين قرية أو بلدة, وقذف بسكانها إلى ما وراء نهر الأردن, ليتم ترحيلهم إلى العراق. هذا ما رواه الفريق مشهور حديثة رئيس أركان القوات الأردنية المسلحة وقد كان آنذاك يعمل في منطقة المفرق من على شاشة mbc في الذكرى الخمسين لقيام إسرائيل.
كان طبيعيا, في ظل حالة الانحدار التي نشهدها في الوضع العربي العام , والفلسطيني بشكل خاص,أن يصدر قرار مجلس النواب الأميركي والذي يمهد للمطالبة بتعويضات من الدول العربية أو ثنيها عن الإصرار على حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم. ولم يشر القرار, الذي يصنف باعتباره غير ملزم, إلى أن إسرائيل هي التي جلبت اليهود العرب إليها بالترغيب حينا وبالترهيب أحيانا. وإذا كان هؤلاء اليهود غادروا ديارهم في البلدان العربية كرها فإنه ليس هناك من مواطن عربي يرفض عودتهم إلى أوطانهم . وإذ نكّر بجهالة ونفاق وانتهازية من يرى في نفسه مرشحا ليأخذ مكانه في السلطة التشريعية والتنفيذية في الولايات المتحدة فإننا نشير, وللذكرى فقط, بأن الولايات المتحدة بذلت على هذا البلد سورية ضغوطا تئن منها الجبال مقابل السماح لليهود من الهرب السوريين بالتوجه إلى الولايات المتحدة بقصد الإقامة فيها
والشيء نفسه طبق على اليمن.
كل يوم يثبت الأميركيون, ليس كشعب وإنما كسياسيين, أنهم بلا تاريخ أولا, ولو درسوا في جامعاتهم كيف هجّرت جماعات من الشعوب الآوروبية إلى بلاد العالم الجديد منذ العام 1492
بفعل الاضطهاد الديني, والكراهية التي كان يتمتع بها اليهود من الشعوب الأوروبية لعرفوا معنى الهجرة والتهجير الذي تعرض له الفلسطينيون على أيدى العصابات الصهيونية.
ولقد جاء في القرار: في أي نقاش أو بحث في مسألة اللاجئين الفلسطينيين يجب أن يأخذ بعين الاعتبار أيضا يهود الدول العربية الذين اقتلعوا من بلدانهم. وقال النواب في قرارهم : إن قضية اللاجئين الفلسطينيين استحوذت على اهتمام بالغ من قبل دول العالم.
إن أسوأ ما في الوجود أن يكون المشرع جاهلا. قد يكون جاهلا بتاريخ بلادنا مسألة تغتفر, أما أن يكون جاهلا بتاريخ بلاده فهذه هي المأساة التي تحولت إلى ملهاة. ولكن لا بأس فالسيد الرئيس جورج بوش لم يفرق بين استراليا Australia والنمسا Austria
وهذا يذكرنا بالقول الدارج إذا كان رب البيت ضاربا فشيمة أهل البيت كلهم الرقص. إن المرء ليصاب بالغثيان عندما يكون أباطرة العالم ومشرعوه من هذا النوع فيما كانت أثينا بدولة مدينتها
تنتخب لرئاستها فيلسوفا بعد أن كان مشرعا. وبالمناسبة سئل سقراط يوما :لمَ تعلم الفلسفة ? فأجاب: ليعلم هذا الجالس على الحجر أنه ليس حجرا.
اليهود في بلاد المشرق مواطنون مثل أي مواطن آخر. لم يهاجروا للكيان الصهيوني برغبة منهم بل أجبرتهم الحركة الصهيونية على ذلك. نقرأ في كتاب الهجرة اليهودية لصاحبه شلومو هليل وهو من العراق- كيف بالتعاون مع موشيه نسيم (كان وزيرا في حكومة الليكود) فجروا كنيس بغداد على المصلين فيه ليقنعوا يهود العراق (وهم مواطنون عرب يدينون باليهودية)ليرحلوا من العراق إلى إسرائيل عبر إيران الشاهنشاهية. ومثله يتحدث يوسي ميلمان في كتابه
Every Spy a Prince كل جاسوس أمير) كيف تم تهجير اليهود من المغرب بالزوارق إلى اسبانيا باعتبارهم مواطنين فرنسيين.
ويقدر المشرع الأميركي أن عدد اليهود الذين تركوا أوطانهم الأم بنحو 850 ألف يهودي , بينما أهمل اللاجئون الفلسطينيون الذين ما كان لهم أن يغادروا قراهم وبلدانهم لو لم تدمر.
إن خطورة القرار تكمن في أنه أراد أن يؤسس إلى واقع جديد في التعامل مع قضية اللاجئين بطريقة تؤدي إلى توطينهم حيث هم , وتعتبر أملاك اليهود في البلاد العربية مساوية من حيث القيمة لممتلكات الفلسطينيين.
وإذا كانت قضية اللاجئين تمثل الشق الثاني من متلازمة (إسرائيل/ اللاجئين) بحيث إذا ذكر أحد مكوني المتلازمة ذكر المكون الثاني. وفي هذا الصدد يقول البروفيسور آفي شلايم أستاذ العلاقات الدولية في جامعة أكسفورد إنه لا حل للمعضلة الإسرائيلية بدون حل قضية اللاجئين. فإذا جرى الاتفاق على توطين اللاجئين التفتت إسرائيل إلى الشرط الذي تضعه منذ أمد وهو إن أي تسوية للصراع في المنطقة يجب أن تقوم على الاعتراف ب يهودية الدولة العبرية وهو اعتراف يحمل مخاطره في بطنه ذلك أنه يقضي بأن إسرائيل هي الوطن القومي لليهود في العالم وبالتالي فإن الفلسطينيين أمام معضلة جديدة إما أن يكونوا مواطنين من الدرجة الثانية والثالثة أي لا يتمتعون بأبسط حقوق الإنسان وهي المساواةفي الحقوق والواجبات بيد أن الفلسطينيين الآن متساوون في الواجبات دون الحقوق .
كل هذا يذكرنا ب فضائل إعلان الجزائر الذي قضى باعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل ليتلوه اتفاق أوسلو الذي جعل من عرب الداخل مسألة محض إسرائيلية. وكان من نتائجه أن اسقط القرار الدولى رقم 3379 الذي ساوى بين الصهيونية والنازية الصادر عن الدورة الثلاثين للجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 10 تشرين الثاني عام 1975
* كاتب فلسطيني