بعد أكثر من أربعة عقود من قرارها، الخروج منها، وبخاصة بعد مجيء ساركوزي إلى السلطة، إلا أن نـظرة متعمقة إلى تاريخ السياسة الخارجية الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية، وتوجهات ساركوزي الحالية، تؤكد عكس ذلك. إن فقدان فرنسا لإمبراطوريتها، التي استمر بناؤها قرونا طويلة، نتيجة الحرب العالمية الثانية، أضعف ثقتها بنفسها كثيراً، بالرغم من أنها كانت ضمن الحلف المنتصر، ما أدى إلى رضوخها أمام الإملاءات الأمريكية، وأصبحت في وضع تابع لها.
و كانت فرنسا عند استلام ديغول السلطة، تشارك في اللجنة الدفاعية العسكرية لحلف الناتو، وتمركز على أراضيها عدد من القواعد العسكرية الأمريكية، والإدارات الرئيسية لحلف الناتو، وكان الجيش الفرنسي المتبقي تابعاً للناتو وتحت الإمرة العسكرية الأمريكية مباشرة، كل ذلك اعتبره ديغول انتقاصاً للسيادة والمصالح الفرنسية، لذلك قرر الخروج من اللجنة الدفاعية العسكرية لحلف الناتو، وأخذ يدعو أوروبا إلى اتحاد إنساني وثقافي وسياسي لإبعاد الهيمنة الأمريكية، لكن ذلك لم يتحقق حينها لارتباط ألمانيا الغربية باتفاقات عسكرية مع أمريكا، تلزمها ألا تكون مستقلة عنها في المجال العسكري، إضافة إلى أن بريطانيا أيضاً كانت مرتبطة باتفاقيات من هذا النوع مع الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت قد حدثت الأزمة الكوبية، التي اعتبرها ديغول حينها انتصاراً للولايات المتحدة بإجبارها الاتحاد السوفييتي على سحب صواريخه من كوبا.
وهذا ما أوقع فرنسا في مأزق صعب، فهي لاتريد لأمريكا أن تهيمن على فرنسا عسكرياً وسياسياً وثقافياً، ولاتريد في الوقت نفسه مواجهة الولايات المتحدة حفاظاً على المصالح الفرنسية، لذلك ومنذ ذلك الوقت وحتى انتهاء الحرب الباردة، اعتمدت فرنسا استراتيجيتين من أجل خلق مجال للمناورة وإبعاد الهيمنة الأمريكية.
أولاً: الاستراتيجية الأوروبية، وتتضمن ما لاتستطيع أن تفعله بمفردها، تفعله بالتعاون مع الدول الأوروبية الأخرى وخاصة ألمانيا، وهذا ما أعطاها مجالاً للمناورة، أي أنها تقف مستقلة عن حلف الأطلسي دون أن تخرج منه، وتؤثر في الولايات المتحدة دون أن تتحالف معها.
ثانياً: استراتيجية الاستعمار الجديد، فقد أعطت فرنسا شكلياً استقلالاً لمعظم الدول التي كانت تستعمرها بعد هزيمة إمبراطوريتها في الهند الصينية والجزائر، واستمرت في احتواء هذه الدول والهيمنة عليها اقتصادياً، وهذا ما كان يزعج الولايات المتحدة الأمريكية، ولكنها كانت لاتفعل شيئاً ضد فرنسا خوفاً من إضعاف التحالف الغربي أمام كتلة الدول الاشتراكية.
وفي الوقت الذي كان فيه الاتحاد السوفييتي يحاول إضعاف الهيمنة الغربية على دول العالم الثالث، والولايات المتحدة تقاوم عمل السوفييت هذا، كانت الاستراتيجية الفرنسية تستغل هذا التنافس، وتعتبره أساساً للفرص الاقتصادية الفرنسية، أي أن فرنسا كان تهدف أوروبياً إلى تقليص النفوذ الأمريكي، في حين تقوم سياستها الاستعمارية الجديدة على عدم قبول انهيار قوتها الدولية، خوف أن تحل محلها الولايات المتحدة، أي أنها كانت تستغل علاقتها مع الاتحاد السوفييتي لإضعاف القوة الأمريكية دون الرغبة في مواجهة هذه القوة.
أما بعد انحلال الاتحاد السوفييتي فقد اختلف الوضع جذرياً عما كان عليه أثناء الحرب الباردة، حيث أدركت فرنسا أن الفرصة مناسبة أكثر من أي وقت مضى للعمل على تحقيق حلمها السابق في إبعاد الهيمنة الأمريكية، واستعادة موقعها الجيوسياسي المنشود على الساحة الدولية، وخاصة أنها تعلم جيداً أن الدول الأوروبية الأخرى ولاسيما ألمانيا تنتظر هذه الفرصة وهي زوال «الخطر الشيوعي» لتتمكن من التحرر من القيود التي تفرضها الولايات المتحدة على هذه الدول بحجة مواجهة هذا الخطر، وإجلاء قواعدها العسكرية من أوروبا، لذلك أخذت فرنسا تعمل وبكل إمكانياتها على التركيز في سياستها الخارجية على عدة اتجاهات، تؤسس لفرنسا موقعاً قوياً في مواجهة الولايات المتحدة، أهمها:
1- الاندماج الاقتصادي والسياسي والعسكري لأوروبا على أن يكون لفرنسا التأثير الأكبر في هذا الاندماج.
2- تقوية مواقعها في مستعمراتها السابقة، وسد الفراغ في الدول التي كانت حليفة للاتحاد السوفييتي السابق، مستغلة ضعف روسيا آنذاك من جهة، وحاجة هذه الدول للمساعدة في مواجهة الولايات المتحدة من جهة أخرى.
استطاعت فرنسا أن تحقق الكثير من خططها في هذا الاتجاه، فعلى الصعيد الأوروبي تجلى الأمر في إنشاء العملة الأوروبية الموحدة (اليورو)، والسوق الأوروبية المشتركة وعلى صعيد العالم الثالث، تجلى بالتمهيد لإقامة شراكات أوروبية متوسطية، إضافة إلى تمكنها من قيادة معارضة دولية كبيرة ضد الحرب الأمريكية على العراق، كان من نتائجها عدم تمكن الولايات المتحدة الدولة الأقوى في العالم من استصدار قرار من الأمم المتحدة يخولها بشن هذه الحرب.
أدركت الولايات المتحدة بدورها، أن فرنسا أخذت تبالغ في تقييم إمكانياتها وحجمها، وخاصة أنها بدأت تلعب على الأوتار الحساسة، لتأليب الدول الأوروبية ودول العالم الثالث ضدها، وخشية من أن تنجح فرنسا في تحقيق أهدافها وإيجاد تحالف دولي يهدد بقاء عالم أحادي القطب بزعامتها، أخذت تواجه فرنسا في كل الاتجاهات التي تضر بمصالحها وعملت على:
- توسيع حلف الناتو والاتحاد الأوروبي نحو الشرق، لضم دول جديدة واقعة تحت الهيمنة الأمريكية.
- افتعال حروب أهلية في البلقان وسط أوروبا.
- التدخل بالشؤون الداخلية للدول الافريقية التي تعتبر تاريخياً مناطق نفوذ فرنسية أساسية مثل الجزائر ورواندا وساحل العاج، إضافة إلى دول افريقية أخرى، وأدى هذا التدخل إلى اشتعال حروب أهلية عنيفة، مازالت آثارها حتى يومنا هذا.
كل ذلك أجبر فرنسا على الاتفاق مع الولايات المتحدة من خلف الكواليس على مساعدتها في لبنان مقابل التخلي الأمريكي عن التدخل في شؤون الدول الأفريقية الحليفة لفرنسا، وهذا ما أصبح واضحاً بعد انتهاء الحروب الأهلية في الدول المذكورة أعلاه، ومساعدة فرنسا الولايات المتحدة الأمريكية في استصدار القرار 1559 المتعلق بلبنان وسورية.
وبعد وصول ساركوزي إلى قصر الاليزيه، تنبأ المحللون السياسيون بمرحلة جديدة من العلاقات الفرنسية - الأمريكية، تتسم بالانحياز الفرنسي الكامل إلى جانب الولايات المتحدة في حربها على ما يسمى «بالإرهاب» وخاصة أن ساركوزي كان قد ركز في حملته الانتخابية على «القطيعة» مع السياسات الفرنسية السابقة، ودعمه للإدارة الأمريكية وتأييده لها في حربها على العراق.
لكن المعروف أن الدبلوماسية الفرنسية لها مؤسساتها وتقاليدها العريقة، التي لا يمكن أن تتأثر إلى هذه الدرجة بوصول شخص كالرئيس ساركوزي إلى سدة الرئاسة، وإن الإرث التاريخي للعلاقات بين البلدين لايمكن أن يطوى بسهولة وتتحول السياسة الخارجية الفرنسية مئة وثمانين درجة دفعة واحدة، لكن فرنسا أيقنت الفشل الكبير الذي لحق بالولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، وأن ذلك سيؤدي آجلاً أم عاجلاً، إلى خروج الولايات المتحدة خاسرة من هذه المناطق، لذلك على مايبدو قررت تغيير التكتيك في سياستها معها تمهيداً لسد الفراغ الذي سيحصل، وأملاً في استئناف دورها الفاعل في إتمام الوحدة الأوروبية.
إذا تمكنت فرنسا خلال الفترة الماضية، التي انقضت على انتهاء الحرب الباردة من إنشاء العملة الأوروبية الموحدة وإقامة السوق الأوروبية المشتركة، وتقوية دور الاتحاد الأوروبي إلا أنها لم تتمكن من إنشاء منظومة دفاعية مشتركة حتى الآن، بعيدة عن الإملاءات الأمريكية.