تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


تمثال هنيبعل..

آراء
الاثنين 28/1/2008
جلال خير بك

في أوائل الخمسينيات كنا تلامذة في الصف السادس (الأول الإعدادي آنذاك) في مدرسة التجهيز باللاذقية.. وكان كتاب التاريخ الذي ندرسه, يتناول في مبتداه : العصر الحجري وما تلاه من عصور قبل الميلاد .. وفي جملة ما قرأنا فيه:

التاريخ الفينيقي. وأذكر أن صورة إيضاحية, كانت بين دفتيه, هي صورة تمثال نصفي للقائد هنيبعل.‏

في أحد مشاويرنا أنا وشقيقي جمال, قرب مبنى المندوبية وهو الآن متحف اللاذقية.. وجدنا قطعة صخرية منحوتة ملقاة على الرصيف. ولما اقتربنا منها, عرفنا أنها التمثال النصفي لهنيبعل وهي نفس الصورة التي وضعت في كتاب التاريخ المذكور.. وكان التمثال ثقيلاً نوعاً ما فحملناه لنسلمه لمخفر الشرطة بالشيخ ضاهر.. والمسافة بين الموقعين بعيدة.. فتناوبنا على حمل التمثال مسافة, ثم تعبنا فتركناه على أحد الأرصفة ومضينا!!‏

في سنة 1967 سافرنا إلى الجزائر كمعلمين معارين من سورية للمشاركة في حملة التعريب التي تكاتفت فيها جهود مختلف الأقطار العربية. وعملنا - أنا وشقيقي- في مدارس وهران, وكانت حملة التعريب هذه في أولها إذ إن الجزائر استقلت عام 1962 بموجب اتفاقية إيقيان.. وكانت تلك البلاد من أجمل ما رأينا: موقعاً وبناء وجبالاً خضراء وشطوطاً بحرية.. فقد عمرتها البرجوازية الفرنسية على (مزاجها) فلطالما اعتبرتها قطعة من فرنسا!!‏

فكان الفرنسيون يسمون وهران:(باريس الصغيرة) كما أخبرنا الأخوة الجزائريون.. لجمالها وروعتها وشبهها بباريس.‏

ومن المفارقة أن نرى الجزائر الآن, غارقة في اضطراباتها وهي البلاد التي قيض لها أن تكون أول بلد اشتراكي بين الأقطار العربية.. إذ استلمتها الثورة وكل شيء فيها من حجر وشوارع وأبنية ومزارع كروم وحمضيات ومرافىء وقطارات وسفن وطائرات وحافلات ومصافي البترول وسفنه.. وحتى المقاهي والمحال التجارية: كانت ملك الثورة. فدخلها جيش التحرير واستلمها وليس فيها أملاك شخصية إلا في النادر جداً.. فلقد بقي الاستعمار الفرنسي فيها أكثر من مئة سنة فاستملك كل شيء.. وحين انتصرت ثورة المليون شهيد, استلمت البلاد بما فيها, فدخلت الجزائر المضمار الاشتراكي دفعة واحدة.. أما كيف أصبحت الآن فلا أدري إلا من خلال صور الفضائيات حيث تظهر مدنها بجمالها الساحر.‏

في صيف عام 1968 عدنا إلى سورية بحراً عن طريق فرنسا. وقضينا يوماً في مرسيليا وعشرة أيام في باريس وقد استقبلنا شقيقي كمال في محطة القطار وكان معه آنذاك الصديق المرحوم سعد الله ونوس الذي درس في باريس في تلك الفترة, في اليوم التالي, درنا على معالم باريس وضواحيها وعلى بعض المدن الفرنسية وفي باريس شاهدنا في جملة ما أخذنا إليه: كنيسة السيدة العذراء (نوتردام) ومتحف اللوفر وقصر فرساي.. وفي اللوفر- وهنا بيت القصيد- صعقنا مشهد رأيناه.. لقد كان التمثال النصفي لهنيبعل الذي حملناه صغاراً في اللاذقية وتعبنا منه فتركناه.. وجدناه هنا ماثلاً للمشاهدين في قفص زجاجي, بين معروضات المتحف.‏

قلت لشقيقي جمال: انظر.. أليس هذا التمثال هو الذي وجدناه على الرصيف في اللاذقية? قال:إنه هو .. وقد كان كذلك.. إذ لم تعرضه متاحفنا في سورية بين مقتنياتها لأنه وصل إلى متحف اللوفر في باريس!!‏

ولم يكن هنيبعل وحده هناك.. بل كانت تماثيل لأدونيس وعدد من الآلهة السوريين: ماثلة في أقفاص زجاجية أمام الزوار والمشاهدين!!.. ولم يكن تمثال أدونيس نصفياً مثل هنيبعل, بل هو تمثال ضخم وبالطول الكامل, من الرخام أو المرمر.‏

ماذا يحدث لآثارنا التي تتوزع في أنحاء المعمورة?!..وماذا جنت تلك الأيدي الجائرة التي باعتها أو هربتها خارج سورية?? إن ثرواتنا الآثارية ذات قيمة لا تقدر.. ونحن نستهين بها لقاء المال!!.. فأي حسٍ وطني يسكن ضمائر أولئك المتسبب بفقدانها? وأي توعية حققناها? وأي قوانين رادعة زاجرة قدمناها لتلك الثروة التي لا تقدر بثمن??‏

إن من دواعي تراجع الأمم, ألا تحافظ على إبداعاتها.. وتماثيلنا التي رأيناها في اللوفر وغيره, تحكي قصة الخلق والإبداع التي أنجز إنساننا روعتها.. فبأي وجه من وجوه المنطق, نفقدها نحن ليكسبها الآخرون لقاء دريهمات?!‏

لا تزال في بلادنا- رغم المكتشفات- منجزات خلاقة تحكي تطورنا منذ عمق العصور.. وعاماً بعد آخر نقرأ هنا وهناك عن مكتشفات جديدة.. فهذه الأرض الخصبة التي أبدعت أول أبجدية مدونة: تخرج كنوزها للناس..وحري بنا أن تبقى هذه الابداعات في بلادنا حتى لا نضطر للسفر إلى أقاصي المعمورة لنشاهدها!!‏

إن كل دول العالم تحافظ على ثرواتها الآثارية وتضن حتى بإخراجها خارج البلاد لتبقى في مهدها ثروة تشهد على تاريخها الحضاري..إلا عندنا فهناك عدد من ضعاف النفوس يتاجرون بها ويبيعونها ك (لقى) أثرية في غفلة عن عيون الجهات الرسمية المسؤولة وبين عشية وضحاها تصبح هذه الآثار في دنيا أخرى (بعيدة عن موطنها) حيث تعرض في متاحف العالم بدل أن تعرض في بلادنا كتعبير عن حضارتنا وإبداعنا الخلاق.‏

لقد ظلت إسبانيا دهراً تناضل حتى أعادت لوحة (الفيرنيكا) لبيكاسو والتي تتحدث عن ويلات الحرب بعد أن تدخلت في إعادتها دول عدة..وتلك لوحة واحدة على روعتها وقيمتها فما بالك بآلاف الآثار التي تستقر في متاحف العالم! فمن يعيدها إلينا ومتى?! بل متى يوضع حد صارم لمرتكبي تلك الجرائم من تجار وسماسرة?!‏

إنه لمن المحزن فعلاً أن نرى مواقع أثرية في سورية تتربع فوق آثار أخرى يكشف عنها النقاب عاماً بعد عام..وهي دون حراسة أو حماية وإن وجد بعض هذه الحراسة فهي لا تكفي لحماية جرة واحدة فما بالك بموقع كامل?! فشرطي أو شرطيان لا يستيطعان القيام بهذا العبء الكبير.ومن الأهمية بمكان أن نؤهل جهاز شرطة آثارية يعرف ماهية الآثار وقيمتها: كي نضمن حماية واعية لتلك المواقع وآثارها..جهاز شرطة يعود للجهة المسؤولة وليس لوزارة الداخلية وحدها فلديها من الأعباء الشيء الكبير.‏

ولما لا يكون للآثار جهازها الشرطي وحدها?! ولما لا تدخل إلى المواقع الأثرية التطورات التقنية الحديثة, فتراقب بالكاميرات التلفزيونية لنحمي آثارها ونبعد عنها أيدي العابثين?!‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية