ولم يكن من السهل ان نتتبع جميع اللحظات والذكريات التي سردها أمامنا فكان الامساك بالجانب الشخصي فيه الكثير من الصعوبة وكأن الحزب غطى على جميع جوانب شخصيته.
إننا مع الرفيق الدكتور جورج صدقني عضو القيادة القومية في حوار التجربة الشخصية:
مرحلة الطفولة المبكرة
عشت طفولة قاسية جداً . كان ذلك في أثناء الحرب العالمية الثانية , التي زادت صعوبات الحياة قسوة على الناس جميعاً , إذ عانى المواطنون نقصاً كبيراً في المواد الغذائية , حينئذ صار الرغيف عزيزاً , ولاسيما في الأرياف , فاستبدل المواطنون خبز الشعير بخبز القمح , وحين اشتدت الأزمة اضطروا إلى الرضا بخبز الذرة . وقد زاد من قسوة طفولتي أن والدتي توفيت وأنا في التاسعة من عمري. إن المحروم من حنان الأم يشعر أنه محروم من كل شيء , ولا شيء يعوض عن وجود الأم .
أنهيت مرحلة الدراسة الابتدائية في إحدى مدارس الريف , وكنت حينئذ في الثانية عشرة من العمر , فانتقلت إلى دراسة المرحلة الإعدادية في طرطوس ثم في اللاذقية , وكان عليّ في هذه المرحلة أن أعيش وحدي معتمداً على نفسي , وكان والدي يتفقدني بين حين وآخر حين تسمح له الظروف . ومما لا أنساه أبداً أنني حين كنت طالباً في مدرسة ( التجهيز ) في اللاذقية , في المرحلة الإعدادية , تأخر والدي عن زيارتي لأسباب قاهرة , فتأخرت عن دفع القسط الثاني من الرسوم المدرسية السنوية ( وقيمته كانت حينذاك 15 ليرة سورية, فالتعليم لم يكن مجانياً, حتى في المدارس الرسمية), فطالبتني إدارة المدرسة بدفع القسط مرة بعد مرة , ثم أنذرتني بالطرد , ولما عجزت عن الدفع وجدت نفسي على قارعة الطريق مطروداً . وكان من لطف العناية الإلهية أنني تعودت - حتى انفرجت أزمة القسط - أن أثابر على الحضور إلى دار الكتب الوطنية ( وهي من مآثر الأمير مصطفى الشهابي رحمه الله , إذ كان حينذاك محافظاً للاذقية ) , وتعودَّت بعد ذلك أن أذهب إلى دار الكتب كلما سنحت لي الفرصة , فقرأت لطه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم والمازني وجبران وميخائيل نعيمة والياس أبو شبكة وغيرهم وأنا في الرابعة عشرة .
الانتساب للحزب :
في السنة التالية سمعت من عدد من زملائي الطلاب عن حزب جديد مختلف عما سبقه من الأحزاب, اسمه حزب ( البعث العربي ) , وقد سألت عن مبادئه وأهدافه فراقت لي , وحين عرفت عن الحزب أكثر , وجدت فيه مجتمعاً جديداً أثبت وجودي فيه وأهدافاً عظيمة تستحق أن يضحي المرء في سبيل تحقيقها , فانتسبت إلى الحزب بالفعل وكان ذلك في أواخر تشرين الأول 1946 .
السجون وظروف النضال
لقد انخرطت في نضال الحزب فوراً فكنت أشترك في جميع المظاهرات الطلابية الوطنية , أما مظاهرات الحزب فأذكر منها مظاهرة طالبنا فيها بتأميم مرفأ اللاذقية وإعطاء العمال حقوقهم , ومظاهرة أخرى طالبنا فيها بتأميم شركة ( الريجي ) الفرنسية , وقد أخذ هذان المطلبان طريقهما إلى التنفيذ بالفعل
وإذا كانت هاتان التظاهرتان مرتا بلا خسائر تذكر , فإن صنوف النضال الأخرى أفضت بي إلى دخول السجن غير مرة , ولاسيما في عهد أديب الشيشكلي .
كانت المرة الأولى التي أدخلت فيها إلى السجن في العام 1950 : ففي أثناء انتخابات الجمعية التأسيسية زج بي في سجن اللاذقية عقاباً لي على نشاطي لمصلحة مرشح الحزب , وأفرج عني بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات المزوَّرة , وحققت الحكومة غرضها . وفي عهد الشيشكلي سجنت في ( الشيخ حسن) غير مرة , وفي أواخر عهد الشيشكلي , وتحديداً في أواخر العام 1953 , زج بي في سجن المزة , ولم يفرج عني إلا بعد استقالة الشيشكلي وسقوط نظامه وسفره خارج البلاد في أواخر شباط 1954 .
إن حياتي كانت كلها للحزب : كنت أحيا في الحزب وأحيا به , وفي صيف العام 1957 , انتخبني المؤتمر القطري الانتقالي عضواً في القيادة القطرية تتويجاً لعملي ونضالي في سبيل أهداف الحزب . وفي عهد هذه القيادة أقدم الأمين العام للقيادة القومية على إعلان حلّ الحزب في سبيل إقامة الوحدة بين سورية ومصر كما قال في ذلك الحين , لم أكم مقتنعاً بضرورة حل الحزب, وخرجت بعد انتهاء خطاب الأمين العام دون أن أصافحه , ولم أره بعد ذلك في حياتي .
المنع ثم العودة بعد المنع :
حين أعيد تنظيم الحزب في سورية بعد انهيار الوحدة مع مصر , وجدت نفسي ممنوعاً من العودة إلى صفوفه باعتراض شخصي من ذلك الأمين بالذات . وقد بقيت ممنوعاً على هذا النحو حتى قامت الحركة التصحيحية التي قادها الرئيس الخالد حافظ الأسد , فكانت هذه الحركة المباركة فرجاً عاماً استقبله الشعب بالفرح والابتهاج , وكانت لي فرجاً شخصياً وبالفعل فقد التقيت الرئيس الراحل حافظ الأسد حين زار اللاذقية بعد الحركة التصحيحية بمدة قصيرة . كان لقاء سعيداً من كل ناحية , وفي هذا اللقاء طلب مني العودة إلى الحزب في إطار إعادة الحزبيين القدامى , فوافقت , وهكذا كان الفضل في عودتي إلى موقعي الطبيعي في الحزب راجعاً إلى الرئيس القائد , وهذا فضل كبير شملني به ولن أنساه طول عمري .
الترجمة والمصادفة السعيدة :
أول تجربة لي في مجال الترجمة كانت تجربة غير مباشرة . فلما كنت في ما يعادل الصف الأول الإعدادي في مدرسة ( ايلايك ) بطرطوس , طلبت منا المدرّسة الفرنسية ( مدام غوازغان ) أن نكتب موضوعاً نعبر فيه عن مشاعرنا بالفرنسية , ولما كنت حينذاك لا أتقن من الفرنسية إلا النزر اليسير , فقد عمدت إلى كتابة الموضوع بالعربية ثم ترجمته إلى اللغة الفرنسية , وبذلت كل ما بوسعي من جهدٍ في هذا السبيل . منحتني الأستاذة علامة ( جيٌد ) , وكتبت على الهامش ملاحظة تقول حرفياً ) فكر بالفرنسية !!
ومّرت الأيام حتى أنشئت وزارة الثقافة في العام 1958 وتولى أستاذنا أنطون مقدسي إدارة مديرية التأليف والترجمة والنشر فيها , فكان يطلب مني ترجمة بعض المقالات الفلسفية لنشرها في مجلة ( المعرفة ) , وبعضها كان للفيلسوف الفرنسي ( بول ريكور ) . ثم للمصادفة السعيدة جاء هذا الفيلسوف إلى سورية بدعوة من وزارة الثقافة وألقى في المراكز الثقافية التابعة للوزارة , وكانت إحداها في المركز الثقافي باللاذقية . وكانت هذه المحاضرة فرصة سعيدة جمعتني مع هذا الفيلسوف الكبير والأستاذ مقدسي ونخبة من المثقفين في اللاذقية في سهرة لطيفة , قدمني فيها الأستاذ مقدسي إلى الفيلسوف ( ريكور ) مستئذناً في أن أترجم من مقالاته , فقال : ) عن طيب خاطر , وأنصحك وأنت تترجم أن تفكَّر بالعربية , لا بالفرنسية ! ) .
كان من الطبيعي بعد ذلك أن يدور الحوار كله حول الترجمة . وأذكر مما قاله الأستاذ ( ريكور ) : إن الترجمة ضرب من المحال . إن الترجمة هي فعل خيانة , لأن كل لغة لها شخصيتها , وهي تمثل عقلية خاصة , فكيف لك أن تنتقل من عقلية إلى عقلية أخرى دون خيانة ? ) . وبعد أن أجمع الحاضرون على أنه لا مفرَّ في الترجمة من الخيانة , قال ( ريكور ) إن الترجمة نوعان : خيانة أمينة , وأمانة خائنة , الأولى تظل أمينة لروح النص الأصلي ومعانيه على ما فيها من خيانة , والثانية حرفية لها من الأمانة ظاهرها وهي تخون الأصل في الروح والشكل , ولا تقدَّم للقارئ إلا نصاً ركيكاً لا يكاد يكون مفهوماً . وهذا يعني بوضوح أن الشرط الأساسي للترجمة المقبولة أن يكون المترجم ضليعاً من اللغة التي يترجم إليها , وهي العربية , في مجال حديثنا .
من جانب آخر كان أستاذي الدكتور بديع الكسم يطلب مني ترجمة بعض المراجع اللازمة لطلاب قسم الفلسفة في جامعة دمشق . وفي هذا المجال قمت بترجمة كتاب ( مدخل إلى الفلسفة ) عام 1963 للفيلسوف ياسبرز , وكتاباً آخر عن الفيلسوف هيغل . وكلفني الأستاذ مقدسي ترجمة كتب أخرى لوزارة الثقافة , منها كتاب للمنطقي الفرنسي هيبوليت عن ماركس وهيغل , وكتاب آخر عن السياسي الفرنسي اليساري ( جوريس ) , الذي اغتيل عشية الحرب العالمية الأولى , وخرج من عباءته حزبان فرنسيان هما : الشيوعي والاشتراكي . ومنها كتاب صدر في مجلدين , وكان عنوانه بالعربية ( أمهّات الكتب السياسية ) .
مجمع اللغة العربية :
انتخبت عضواً في مجمع اللغة العربية في العام 1991 , وكان للرئيس الخالد حافظ الأسد الفضل في إصدار مرسوم باعتماد انتخابي في العام نفسه . وأنا أعمل منذ ذلك الحين في لجان مختلفة في المجمع. لقد كان للمجمع العلمي العربي الذي تأسس في العام 1919 دور بارز في تعريب الدواوين والتخلص من الألفاظ التركية السائدة , وكان له دور عظيم في تعريب تعليم العلوم الحديثة في معهدي الطب والحقوق .
إن طموحي الآن أن نستعيد سيرتنا الأولى في المجمع ونستأنف إنجازات رواده العظام , فلا نكتفي بالمحافظة على العربية , وإنما نقوم على خدمتها ورعايتها والتمكين لها في مواجهة اللغات العامية المختلفة وفي ابتكار المصطلحات العربية لمواكب علوم العصر .
إننا نرى في خطاب القسم الذي ألقاه السيد الرئيس بشار الأسد نبراساً هادياً لنا في هذا السبيل , ونعتقد أن المعاني السامية في ذلك الخطاب تقتضي أن يكون المجمع في طليعة الجهات العاملة في خدمة العربية والتمكين لها .
ماذا عن الآن ?
عملي الآن على صعيد الحزب ثقافي من نوع خاص فأنا أوثق لتاريخ الحزب , وقد اكتشفت في سياق عملي أن الحزب مرّ بمراحل مختلفة , وكان في كل مرحلة يجدّد نفسه ويتطور لكي ينسجم مع المتغيرات التي لا تقبل الجمود . وهذا يتناسب بالضبط مع الشعار العام الذي رفعه السيد الرئيس بشار الأسد , ألا وهو شعار التحديث والتطوير . إنني أدعو إلى أن يواجه حزبنا الظروف الكاسحة التي يشهدها العالم أجمع بفكر سياسي حديث ومتطور يدخل في حسابه المتغيرات الجذرية ويتكيف معها مع الاحتفاظ بالمبادئ الجوهرية , وذلك كله بطريقة تتناسب مع وضعنا الحاضر ومع وضعنا في العالم , فلا أحد يستطيع أن يعيش خارج العالم .
لقد قضيت حياتي كلها في الحزب , فلا أقل من أقدَّم للحزب ما بوسعي في هذا المجال . هذا على صعيد الحزب . أما على الصعيد الشخصي فإنني آمل أن أتمكن من لملمة ذكرياتي الشخصية وكتابتها لما قد تنطوي عليه من فائدة للأجيال الطالعة
وفي طليعتها ذكرياتي الشخصية عن الرئيس الخالد حافظ الأسد ولاسيما في مرحلة الدراسة الثانوية . ومنها أيضاً ذكرياتي الثقافية ولاسيما مع الدكتور بديع الكسم والأستاذ أنطون مقدسي , وذكريات ثقافية من نوع آخر مع الشاعر نزار قباني والموسيقار محمد عبد الوهاب والأخوين عاصي ومنصور رحباني , ولاسيما ثالثهما الياس رحباني , الذي لبّى طلبي مشكوراً بتلحين ( نشيد البعث ) , بعد أن أخرجه شاعرنا الكبير سليمان العيسى في ثوب قشيب . أما ذكرياتي مع فيلسوف العروبة زكي الأرسوزي فلابد أن يكون لها فصل خاص ودقيق . وينبغي ألا ننسى يوسف الرويسي , الذي أقام في دمشق زمناً مديراً لمكتب ) المغرب العربي ) فقد كان مناضلاً عربياً من طراز نادر وفريد .