هذا ما شاءه لها الانتماء، الذي جعلها بأحلامٍ شاسعة الطموح ولا تلوي على ألم، وإلى أن أتى زمنُ المذابحِ والسواطير والدمِّ والعدم.. الزمن، الذي عاشتْ وسمعت قصصهُ، فأوجعها مافيه من نزيفٍ ذرفته غضباً «على مائدة داعش» الدموية.. الرواية الأولى التي أطلقتها فمنحتها، هوية ثالثة هي الهوية الإبداعية.
إنها «زهراء عبد الله» الأديبة التي قررنا ولأجلِ كلّ ماأوردناه، محاورتها وسؤالها بما بدأناه:
- كاتبة سورية - لبنانية.. هذا مانعرفهُ عنك،ِ فهل من لمحةٍ سريعة تعرِّفُ القارئ بمسيرتكِ؟.
- - أورثتني أمي وطناً بلا هوية، وأورثني أبي هوية بلا وطن.. هكذا أعرّف عن نفسي بالطريقة ذاتها دائماً.
فقد ولدتُ من أب سوري وأم لبنانية. ترعرعت وكبرت في لبنان، وأنا أحمل الجنسية السورية، درست العلوم السياسية، و«على مائدة داعش» أولى رواياتي، وحالياً بصدد كتابة عمل جديد.
- أهديتِ روايتك «على مائدة داعش»: «إلى النساء المختطفات لدى داعش، لأني عاجزة عن فعل أيّ شيء، كتبتُ هذه الرواية»، أيمكن القول، أن وحشية هذا التنظيم وآلام السبايا، هو مادفعكِ لاحترافِ الكتابة؟.
- - وحشية هذا التنظيم، هي مادفعني إلى اختيار موضوع الايزيديات تحديداً.. فكرت أنني من المحتمل أن أكون مكان إحدى هؤلاء النساء. شعرت بعجزٍ قوي تجاه ما حصل ولا يزال.. عنف، سبي، ذبح، اغتصاب باسم الله، وأمام الاديان والقانون والانسانية.
-في الرواية، وقائع سبي تنظيم داعش للنساءِ مابين مدينتي الموصل العراقية والرقة السورية. على ماذا اعتمدتِ في وصفك لطالما، ما اقترفته هذا التنظيم الارهابي من مجازر، أفظع من أن يصفه حتى الخيال؟.
--بدايةً، كان الدور الأبرز للأبحاث المكثفة التي قمت بها، ولمئات الشهادات لناجيات من أيدي داعش، كلهن تشاركن الوجع نفسه، من الموصل نُقلن إلى الرقة أو الى مدن أخرى.. لقد حاولت رسم سكة مكانية بين هاتين المدينتين، لانهما شكلتا رمزاً قوياً لتواجد هذا التنظيم..
أعترف أنه مهما شطح الخيال، لن ينجح بأن يضاهي الواقع الذي سطّره إرهابهم!..
حاولت كثيرا تلطيف الامور، وعدم التطرق لحوادث قاسية قدر الإمكان، كي لا أدخل أيضا بنفق التوثيق. فكان الخيال أرحم من كل ما عرفته وقرأته.
- تقولين: «حارب لتبقى لوناً في الضوء، فالألوان في العتمة لاوجود لها»، ياترى، أي لون بإمكانه أن يهزم السواد الذي عمّ إلى أن ادلهمَّ كل لون أحاطَ بنا؟.
- - إنه صراع البقاء، والعتمة أشبهُ بثقب أسود يبتلع كل شيء. الألوان ترمز للحياة، وترمز أيضا للثورة على الحياة إن كانت ظالمة..
أما بالنسبة للسواد الذي طغى على المنطقة. سواد الارهاب والتطرف، وسواد القلوب التي لا تعرف الرحمة، فأظن أنه لا يمكن التغلب عليه إلا باللون نفسه: «الأسود.» الأسود الأكثر سواداً والأشد قوة، وإلا سيكون ثقباً يبتلعنا جميعاً.
- برأيك، هل يكتب مبدع هذا الزمن، بالقلم أو بالألم.. بالدمعِ أو بالدم، وماذا بإمكاننا أن نطلق على هكذا أدب؟.
- - يُقال أن الإبداع يخرج من رحم الالم، ومنطقتنا اليوم عامرة بالخراب النفسي، الحجري و الحضاري.
الكاتب يرى بعين ثالثة، ويكتب بإصبع سادس، فلا يمكن له أن ينجرف وراء الالم والدم، ولا أن يترك القلم يأخذه إلى منطقة الحياد. عليه بتوازن يكون منطقي وغير مُسير بالعواطف، فعندما تنتهي هذه المرحلة الصعبة، الفنون هي من سيبقى لتخبر بما جرى.. عليها أن تكون صادقة لأجل الاجيال القادمة.
-قرأتُ لكِ: «صوتُ مقاتل يخنقُ حنجرة قلمي/ يحفرُ بأوراقي خنادق/! يريدُ أن يصرخ وأن يخرج/ كما الرصاص من البنادق/.. إلى أي مدى بإمكان المبدع أن يواجه برصاصِ كلماته، أعداء وطنه وشعبه وحياته؟.
- - إننا هنا أمام ما يُسمى بالمقاومة الفكرية، داعش عدو مزدوج من قوتين عسكرية وفكرية، ومن أجل مواجهته علينا التصدي له عسكرياً، ومن خلال رجال مقاومين يحملون سلاحهم ودمهم على الحدود.
أيضاً، علينا مواجهته من الداخل، وبفكرنا الذي يجب أن ينتشر ويتكاثر، ليتصدى لفكره المتسلل إلى العقول والقلوب.
- قرأتُ أيضاً: «ليس ثمة خيال يفوق هذا الواقع غرابة وجنوناً ورعباً»، ألا ترين، بأن صمت بعض المثقفين أو انقيادهم أو تواريهم، أشد غرابة ورعباً في ذبحهِ للثقافة والوطن؟.
- - لا أجد خيانة أشد جبناً وانحطاطاً من خيانة الوطن. لكن، ما يُقلق في مثل هكذا مراحل حساسة، هو اكتشاف الفرد لمفهوم الوطن متأخراً، وفهمه له في ظل ظروف سريعة ومتخبطة، لا يكون مفهوماً صحيحاً.. يجب الترفع عن المصالح الفردية والطائفية، ليسمو الوطن أولاً، وللأسف لكلٍّ مفهومه للوطن، وهنا الكارثة، التي ليس للمثقفين وحدهم يد فيها، بل لكل فئات الشعب والجماهير.
- أخيراً، هل تعتقدين بأن ما صدرَ من رواياتٍ توثق مجازر وجرائم داعش يكفي لصحوةٍ ثقافية، وكيف السبيل للصحوةِ الأهم. الأخلاقية؟.
- - لم أطلع على كل ما صدر، إنما العدد الذي اطلَّعت عليه من الروايات التي وثقت ما يحدث من اضطرابات في العالم العربي، ومن روايات تناولت ما اقترفته داعش من جرائم، منها ما هو بمستوى جيد، ومنها ما كان متهوراً ومنساقاً نحو التحليل العاطفي.
أما بالنسبة للصحوة الثقافية، فإنها تحتاج لجهود أكثر والنوعية هنا أهم من الكمية.