ففجأةً وجدتُ في جعبتي عشرين ألف ليرة بحالها عدّاً ونقداً من غير الراتب، لملمتها - وبصعوبة - شهراً وراء شهر، عبر اشتراكي بجمعية مع عشرة أصدقاء وصديقات، كان الواحد منّا يدفع ألفي ليرة في كل شهر، وكل واحد يحصل على عشرين ألف ليرة توزّع بتسلسلٍ دوريّ مُتّفقٍ عليه عند أول كل شهر، إلى أن وصل دوري، فأخذت العشرين ألف، واحترتُ ماذا أفعل بها ..؟ ووقتها علمتُ بالفعل كم يبقى صاحب رأس المال متعباً، فكثرة المال متعبة حقا.
خطرت لي فكرة ذكية، إذ قلتُ في نفسي: إن البنك العقاري الذي رواتبنا موطّنة فيه، غالباً ما تخذلنا صرافاته، فهي إمّا أن تكون معطّلة، أو خارج الخدمة، أو بالخدمة ومزدحمة، أو تستقبلنا .. نضع بها بطاقة الائتمان .. نُحدد اللغة .. نضع الرقم السري .. ونختار سحب مبلغ، فيجفل الصرّاف حيث يُطقطق ويُخرج لنا البطاقة بسرعة، ويعتذر على شاشته بأن هناك مشكلة في الصرّاف ويرجونا التوجه إلى صرّافٍ آخر ..! وأمام هذا الواقع - وفي ظلّ أنّ الصرّافات المئة التي وعدنا بها العقاري منذ أشهر لم نشمّ رائحتها بعد - كان لا بدّ من إمعان التفكير بماذا سأفعل بعشرين ألفي ..؟! فتذكّرتُ أن لي حساباً قديماً في بنك بيبلوس، فتحه لي صاحب مجلة خاصة كان حضارياً، ليودع فيه راتبي مع نهاية كل شهر، المهم تركتُ المجلة وبقي الحساب، وأتذكّر أنني جمّدتُ فيه نحو ألف ليرة كي لا يُلغى، وكانت الفكرة الذكية بأن أراجع بيبلوس لتفعيل الحساب من جديد، وأودع فيه هذا الرأس المال الذي أتعبني، فيستريح رأسي، ويصير بإمكاني السحب من صرافاته غير المزدحمة عندما يضيق بي الحال مع العقاري.
لم أُكذّب خبراً، ذهبتُ إلى فرع المزة، ورحّبتْ بي الصبيّة أيّما ترحيب، كشفتْ على الحساب، بعد أن أخذتْ هويتي وبطاقة رقم الحساب وبطاقة الائتمان، فقالت لي: إنّ حسابك ملغى..! أبديتُ استغرابي وسألتها: كيف يُلغى وفيه ما لا يقل عن ألف ليرة ..؟! فأوضحت بأنها استُهلكت كنفقاتٍ إدارية، وإن أحببتُ تفعيل الحساب فلا بدّ من إجراءاتٍ كأن نفتحُ حساباً جديداً، قلتُ لها لا بأس .. فليكن كذلك.
أعطتني استمارة وطلبت مني تعبئتها، نظرتُ إلى الاستمارة فكان فيها بياناتٍ شخصية، وفيها أيضاً أنه بناءً على الامتثال لقانون فاتكا عليّ الإجابة عن الأسئلة التالية :
هل أنا مواطن اميركي أو مقيم في الولايات المتحدة الأميركية..؟ ما مكان الولادة في الولايات المتحدة الاميركية..؟ وما هو عنوان الاقامة أوعنوان المراسلات البريدية في الولايات المتحدة الاميركية..؟ ما رقم الهاتف في الولايات المتحدة الاميركية..؟ هل هناك أوامر دفع ثابته لتحويل اموال الى حساب في الولايات المتحدة الاميركية..؟ وما عنوان الوكيل في وكالة قائمة على الحساب في الولايات المتحدة الاميركية..؟!!
قلتُ لها: وما علاقتي أنا حتى أُجيب عن هذه الأسئلة ..؟! قالت: هو إجراء روتيني لتحديد الرعايا الأميركان، قلتُ لها لا بأس، وضعتُ المعلومات وأجبتُ بالنفي عن كل تلك الأسئلة المُستفزّة، ووقّعتُ ثم أعطتني استمارة أخرى فيها تعهّد بأنني مسؤول عن صحة المعلومات، وأنني أتكفّل بدفع التعويضات للبنك في حال أُثْبِتَ عدم صحتها ..!
أحسستُ بأن الدم ينفرُ من نافوخي، لملمتُ هويتي وبطاقاتي والاستمارة التي وقّعتها، وقلت لها: لم أعد أريد هذا الحساب، ولستُ مستعدّاً لأن أتعهّد شيئاً لأميركا، أصرّت أنها تريد الورقة التي وقّعتها، فقلتُ لها: يا أختي أنا لم أعد أريد حساباً عندكم .. مزّقتُ الورقة ورميتها أمامها على المكتب وخرجت .. وراحت تناديني بأن هذا لا يجوز، ولكنني لم أُطق الجدال .. وخرجت.. وهي تنادي..!
لم أستوعب .. وما زلتُ غير مستوعبٍ حقاً، فبيبلوس صحيح أنه بنك لبناني، وإدارته الأم قابعة هناك في بيروت، وهي حرّة بأن تفعل هناك ما تشاء فلا علاقة لنا بها، ولكن بيبلوس - سورية يبقى شركة سورية بحتة، جنسيتها سورية، وتعمل على الأراضي السورية، وعليها أن تلتزم بالقوانين والأعراف السورية، وليس لها أن تنصاع هنا في دمشق لأكثر دول العالم اعتداءً وجَوراً وفجوراً ضدنا، ولا يُعقل لا بميزانٍ ولا بقبّان أن نستسهل مثل هذا الأمر، ونقوم بتنفيذ قانون أميركي بكل اهتمام وحرص، في الوقت الذي تقوم به الإدارة الأميركية الجائرة والظالمة بمعاقبتنا لأننا نريد الحفاظ على كرامتنا، وبحصارنا وتجويعنا، وتصنيع الأزمات والاختناقات في ربوعنا، من أزمة الوقود، إلى أزمة التحويلات المالية، إلى أزمة التكنولوجيا، ومنعنا من شراء الطائرات .. أو حتى من صيانة وتعمير ما عندنا، ولو استطاعت أميركا أن تمنع عنّا الهواء لما تردّدت .. !! وفوق هذا كله نُجهدُ أنفسنا في معاونتها على تطبيق قوانينها ..؟؟!!!
سألتُ حاكم مصرف سورية المركزي الدكتور حازم قرفول عن هذا الأمر، فقال: إننا غير معنيين بتنفيذ هذا القانون ..!
ولكن هناك بنوك سورية خاصة تحرص على تطبيق هذا القانون الأميركي .. وبقوة .. قلتُ للحاكم .. فقال: بالنسبة للمصارف التي تكون إداراتها الأم خارج سورية هي مضطرة للالتزام بهذا القانون (قانون فاتكا) الأميركي، إن كانت إدارتها الأم ملتزمة به، وإلاّ فإنها تتعرّض لمضايقاتٍ وعقوبات ..!
سألتُ الحاكم: وهل المصارف الحكومية معنيّة بشيء من هذا القانون ..؟ فأكد لنا بأنها غير معنية إطلاقاً .
ولكن ما هو قانون فاتكا ..؟
قانون الامتثال الضريبي (فاتكا) هو قانون أقرته حكومة الولايات المتحدة الاميركية في العام 2010 ودخل حيز النفاذ في الاول من تموز من العام 2014، والغرض منه هو مكافحة التهرب الضريبي من قبل المواطنين الاميركيين الذين يملكون حسابات وأصول مالية خارج الولايات المتحدة الاميركية، وذلك من خلال إلزام المؤسسات المالية الاجنبية (غيرالاميركية) بتقديم تقارير عنهم الى مصلحة الضرائب الاميركية، ويشمل اي حساب يعود الى شخص اميركي (سواء أكان شخصاً طبيعياً أم اعتبارياً)، ام يعود لمؤسسة/ شركة أجنبية مملوكة من قبل شخص اميركي بنسبة تزيد عن 10% من الاسهم او الحصص من رأس المال سواء بشكل مباشر ام غير مباشر.
إن تطبيق قانون فاتكا يتطلب من عملاء البنوك ممن تتوافر فيهم أي من المؤشرات الواردة في قانون فاتكا تعبئة بيانات ونماذج خاصة مقدّمة اليه من قبل موظفي الامتثال في فروع المصارف وخلال فترة محددة وبخلافه يتخذ المصرف الاجراء اللازم والمقر في سياسة المصرف الداخلية، وتقع مسؤولية صحة المعلومات والبيانات المقدمة على الزبون، لذا توجب عليه اخطار البنك في حال تغير أي من هذه البيانات بما يتماشى مع مبدأ الإقرار الذاتي (self-certification) المعمول به. وبناء على ذلك، في حال كان شخص اميركي (أو ممثل) لشخص أميركي خاضع لنظام دفع الضرائب يتوجّب عليه الاتصال بأقرب فرع، خدمة الزبائن لتقديم ما يلزم من معلومات ووثائق لهذا الغرض .
وقد يتم الاتصال بالزبون من قبل موظفي خدمة الزبائن وموظفي الامتثال الضريبي في فروع المصرف كافة لطلب تقديم المزيد من المعلومات أو الوثائق من أجل التحقق من وضعه الضريبي في اطار قانون فاتكــــــا..!
الخُلاصة
قد يكون بنك بيبلوس، وغيره من البنوك السورية الخاصة التي تكون إداراتها الأم خارج سورية مضطرة للانصياع إلى هذا القانون الأميركي لتكُفّ بلاء أميركا عنها، ولكن المشكلة عندنا هي أن جميع البنوك الخاصة السورية - ما شاء الله - والتي هي شركات سورية الجنسيّة مرتبطة بإداراتها الأم في الخارج، سواء في لبنان أم في الأردن، أم في بعض دول الخليج المُنصاعة سلفاً لإرادة الأميركان بكل شيء، ولذلك كان من المهم أن يكون هناك بنكٌ سوري خاص واحد على الأقل سوريٌّ بحت، غير منصاعٍ لإراداتٍ ولا لإداراتٍ خارجية، والمشكلة الأخرى عند البنوك الخاصة السورية هي أنّ انتماءها إلى الإدارات الأم الخارجية لم يُعفها من فرض العقوبات الأميركية والغربية عليها باعتبارها مصارف سورية، فهي اليوم في قلب دائرة العقاب والحصار، إزاء (جريمة) ممارسة نشاطها على الأراضي السورية..!
نعتقد أنّ مصرف سورية المركزي متساهلٌ أكثر مما ينبغي مع هذه البنوك السورية الخاصة، التي باتت وكأنها ضائعة بين أن تكون مصارف تابعة لإداراتها في دولٍ أخرى، أم أنها مصارف سورية بحق .. وبمختلف المقاييس، وما يصيرُ عليها يصيرُ على مختلف البنوك السورية الحكومية التي تُثلجُ الصدر بأنها لا تقبل الانصياع لقانون (فاتكا) الأميركي الجائر، الذي يجور على المستثمرين الأميركان في الخارج قبل غيرهم، ما اضطرّ الكثير منهم للتخلّي عن الجنسيّة الأميركية، حتى لا يقعوا في شراك فاتكا..!