وتوقفنا عند بعض أطيافها في شعر الهجاء, ثم انتقلنا إلى عرض نكتة الموقف, مبينين أنه ليس موقفاً واحداً, فقد يكون إشارة إلى الغباء وسوء الإدراك, أو تصويراً لحالة صعبة أو حرجة أو نزقة.
وربما صورت النكتة موقفاً طريفاً, أو موقفاً يدل على حسن التخلص اليوم نعرض لنكتة المفارقة.
نكتة المفارقة
في هذا المجال يتقابل الأسود والأبيض, الطويل والقصير, الحزين والفرحان الضاحك والباكي وهكذا أي إن النكتة تتولد من التضاد أو التناقض المتجلي في الموقف, وربما كان موقفاً يدعو إلى الحزن والرثاء, لكن المفارقة تفجر النكتة فيه. من ذلك مثلاً ما حدث لنا ذات يوم قبل عهد بعيد, فقد توفي أخ شقيق لأحد أصدقائنا فذهبنا, في نفر من الأصدقاء, للمشاركة في التعزية عند المساء.
فكانت المفارقة المدهشة,في القارئ - قارئ القرآن- كان قصيراً قميئاً, يأتي بحركات عجيبة, فيما هو يقرأ وإنما يتجلى ذلك في وجهه, الذي لم نر أغرب منه ولا أقبح, كما أننا لم نسمع أنكر من صوته. وإنما اكتمل الموقف احتقاناً إذمال الرجل إلى القراءة بالإمالة, ثم انتقى سورة من القرآن الكريم, تنتهي آياتها جميعاً بألف هي سورة (الضحى) فكان لا بد من أن يميلها جميعاً, ولقد عانينا كثيراً في كتم ضحكاتنا, نحن والحاضرون جميعاً, وعندما شعرنا بأننا لم نعد قادرين على الصبر, غادرنا مسرعين, دون أن نقول كلمات التعزية المعتادة فما أن أضوانا الزقاق حتى انفجرنا ضاحكين.
أبو دلامة وزوجة الخليفة
وقد كان أبو دلامة من ندماء أبي جعفر المنصور الذي حببه فيه ظرفه, ومما يروى(1) عنه أنه دخل على أم سلمة المخزومية امرأة الخليقة أبي العباس السفاح بعد وفاة زوجها,فإذا فيه تبعث الدموع في عينيه, فبكت معه وراح ينشدها قصيدة في رثائه فقالت له لم أر أحداً أصيب به, غيري وغيرك يا أبا دلامة فقال: يرحمك الله ولكن... لاسواء, فأنت لك منه ولد, وما ولدت أنا منه, فضحكت ولم تكن ضحكت قبل ذلك وقالت: لو حدثت الشيطان, لأضحكته!
ويحدثنا أحمد عبد المجيد(2) عما جرى للممثل الكبير جورج أبيض, في إحدى جولاته- وكانت في مدينة المنصورة, عندما تخلف ممثل من أعضاء فرقته, وكان دوره صغيراً, لسبب مرضي, فكان لا بد من إسناد هذا الدور إلى انسان آخر, وقد أحرج جورج أبيض مدير الفرقة المسرحية ولم يعد يدري ماذا يفعل لولا أن أحد الممثلين أخبره أنه صادف أحد الفنانين المشهورين الظرفاء في هذه المدينة, وقد جاء مثلهم من القاهرة للمشاركة في الاحتفال بأحد الأفراح.
وفي إمكان هذا الفنان الظريف أن يقوم بدور الممثل المريض, ثم يعود إلى الفرح لأن دوره على المسرح لا يتجاوز دقائق, واستصوب الاستاذ جورج أبيض الفكرة, وأحضر الفنان, واسمه أحمد الفار وكان مشهوراً برواية الحكايات الفكاهية والدخول وهو على المسرح في قفشات مع الجمهور. وبعد أن أفهم دوره الصغير, ألبس عمامة وقفطاناً ووضعت له ذقن وشارب مستعاران.
على مسرح المنصورة
وكان عليه طبقاً لمجريات المسرحية التي تقدم على مسرح في المنصورة أن يرد على جورج أبيض بأربع كلمات, هي على التحديد: أقسم لك إني بريء, يقولها إذ يضع جورج أبيض أصابعه في صدره صارخاً: سوف أقتلك أيها المجرم, سوف أقتلك سوف أقتلك.
وبدلاً من أن يضع جورج أبيض أصابعه في صدره غرزها في بطنه, بسبب ما عرف عنه من اندماج كلي في الدور الذي يؤديه, وفي مثل هذا الموقف لا يعود الفنان الكبير يسمع شيئاً مما يدور حوله.. حتى صوت الملقن. وهكذا فإنه لم يلتفت إلى صوت أحمد الفار بين يديه وهو يناشده أن يخفف من ضغط قبضتي يديه, لأنه سيموت بالفعل إذا استمر الاستاذ أبيض فيما هو فيه وهو ذلك العملاق الضخم.
وخلع العمامة والذقن
وعندما لم يجد هذا الممثل الطارئ صدى لرجائه المستميت, خلع العمامة والذقن والشارب والقفطان, وألقى بها على أرض المسرح وهو يصرخ:
- حد الله بيني وبينكم.. على شان ثلاثين قرشاً تتآمرون على قتلي, والاسم تمثيل! ابعدوا عني.
ويورد جبور عبد النور حكاية (3) جرت أيام المعتصم, ذاك أن مغنية تدعى: متيم فارقت الحياة قريب وفاة ابراهيم بن المهدي المعروف بجمال الصوت, وعقب وفاة (بذل) القينة المشهورة, فقالت جارية ظريفة للمعتصم, وقد أسف على موت هؤلاء الفنانين الثلاثة: ياسيدي! أظن أن في الجنة عرساً فطلبوا هؤلاء إليه.
وحدث أن وقع حريق في حجرة هذه الجارية بعد قليل, فأتى على كل ما تملكه وسمع المعتصم الجلبة, فدعابها وسألها عما أصابها. فقالت: ياسيدي احترق كل ما أملكه, فقال: لا تجزعي, فإن هذا لم يحترق وإنما استعاره أصحاب ذلك العرس.
يسرني أن تكون أمي
ويذكر هادي العلوي(4) إن الفرزدق قرأ قصيدة له على الكميت بن زيد حين كان الأخير صبياً, فرآه الفرزدق قد أعجب بها فسأله: هل أعجبتك يابني? فقال الكميت نعم يا عماه. قال الفرزدق: هل يسرك أن أكون أباك? فأجاب الكميت أما أبي فلا أريد به بدلاً.ولكن يسرني أن تكون أمي.
ويقول في موضع آخر (5) إن رجلاً اسمه أبو موسى المكفوف, أتى نخاساً فقال له:اطلب لي حماراً ليس بالصغير المحتقر, ولا بالكبير المشتهر, إن خلا له الطريق تدفق, وإن كثر الزحام ترفق, لا يصدم بي السواري ولايدخل بي تحت البواري, إن أكثرت علفه شكر, وإن قللته صبر, إن حركته هام, وإن ركبه غيري نام.
فرد النخاس: يا أبا عبد الله أصبر, فإن مسخ الله القاضي حماراً, أصبت حاجتك.
المنصور وأزهر السمان. المتفقه
وكان للمنصور(6) صديق من المتفقهين يدعى أزهر السمان, فوفد عليه بعد إغلاقه فأعطاه أربعة آلاف درهم, وعاد إليه في العام التالي للسلام عليه فأعطاه مثلها ورجاه ألا يعود.
ومر عام ثالث فقصده قائلاً: إنه سمع أن مرضاً عرض للخليفة فجاء يتفقده, وقبض أربعة آلاف وانصرف, وفي العام التالي ألحت عليه زوجته وبناته أن يعاود المنصور, فمضى إليه وقال له معللاً عودته:
بلغني أن عندك اسماً من أسماء الله, من دعا به أجيبت دعوته, فقال المنصور: لا فائدة فيه فقد جربته.. ذلك أني أدعو الله به كل مرة ألا تعود إلي فتعود.
جاء يكحلها... فعماها!
وجرى بين الأعمش وزوجته سوء تفاهم فالتمس واحداً من مجالسيه, أعمى كان فصيحاً, أن يأتي زوجته فيخبرها بمكانته بين الناس حتى تعرف قدره. وكانت حسناء فدخل عليها المكفوف وقال:
- ياهناه, إن الله قد أحسن قسمك, هذا شيخنا وسيدنا وعنه نأخذ أصل ديننا وحلالنا وحرامنا, فلا يغرنك عموشة عينيه وخموشة ساقيه!
فغضب الأعمش وقال:
- يا أعمى, ياخبيث,أعمى الله قلبك, كما أعمى عينيك, قد أخبرتها بعيوبي كلها.
الهوامش:
(1) رحلة مع الظرفاء- ص 71
(2) المصدر السابق- ص 61-62-63
(3) الجواري-جبور عبد النور - دار المعارف- القاهرة -ص 94-95
(4)و(5)و(6) المستطرف الجديد- هادي العلوي- دار الطليعة- بيروت-1980