لم يتوقف محمود درويش -في السنوات الأخيرة- عن التفكير بشبح الموت وذلك من خلال رثاء الحياة. مع ذلك, منذ أن نجا من أزمتين قلبيتين عام 1984 وعام 1998 لم يدع فكرة الغياب تسيطر عليه طيلة تلك الفترة في أي من مجموعاته الشعرية وقد عاش تلك الفترة بحالة تناقض وجداني فكنت تجده فرحاً خلياً وبنفس الآن في حالة حنين الى الماضي, محباً للحياة وحكيماً, مقتصداً في أمور العالم دون أن يفقد إحساسه بالأمور الزائلة.
كل من عرف محمود درويش الذي توفي في هيوستن عن عمر يناهز ال 67 يتذكر ابتسامته الحزينة المترافقة مع نظرته القلقة, ميوله وتحفظه, رقته الممزوجة بالسخرية, خجولاً, كان الحديث بالكاد يخرج من فمه, بحيث يختفي وهو يستمع إليك الى درجة أنه لم يكن يحب الاجابة على أسئلة الصحفيين. كانت تضجره كل تلك الأسئلة حول الشعر الذي ليس له أي معنى..
في شقته بباريس كان يحب دعوة أصدقائه الى طاولته ويروي لهم قصص شهرزاد. كان حين يجلس في مطعمه المفضل أمام شريحة اللحم التي يحب وزجاجته المفضلة كان يلهب قلوب النساء.
كان محمود درويش يتغير حين يقف أمام العموم, فتراه قلقاً, يفك ربطة عنقه, يشكو من الانتفاخ والغثيان. في إحدى المرات, على خشبة المسرح نسي خوفه ولم يكن سوى صوت فلسطين, صوت الغربة, صوت ذلك الذي أجبره التاريخ على التشرد, صوت ذلك الذي أصابته مأساة الاحتلال بعمق, ملأ دلوه بعمل غني بحدود ثلاثين مجموعة شعرية ترجمت الى اثنتين وعشرين لغة وستة كتب نثرية. المواضيع الأساسية لأعماله الحب, الشعر والمرأة- توجهت في لحظة من اللحظات نحو فلسطين التي غادرها طفلاً عام 1948.
كان ذلك بداية النفي, »في سن السادسة رميت في عالم الكبار وأجبرت على مغادرة أرضي لأتجه نحو لبنان كنت أظن أني ذاهب الى هناك سائحاً قبل أن أكتشف أني منذ ذلك الوقت سأعيش لاجئاً».
وعزّا نفسه كطفل بالقراءة حيث وجد فيها عالماً «يمكنه أن يجد فيها ما سلبه إياه الواقع«. فالتهم الكتب التهاماً: ألف ليلة وليلة, الدون كيشوت. التراجيديات اليونانية. شجعته عائلته ومدرسوه على الدراسة. جده الذي كان قريباً جداً منه, كان يأخذه معه الى مجامع الكبار حيث يقدمه بفخر لهم باعتباره يجيد قراءة الصحف.
بالنسبة لمحمود درويش أدرك أن الشعر سيكون جواباً على تجربته الطفولية: لقد اغتصبنا من أراضينا وأملاكنا. قصيدتي ستكون انتقامي من هذا الاستلاب. نعم, أملك هذا الحلم الأبله: أن أكون شاعراً يعني أن أعوض قسطي من السعادة.
في العشرين من عمره, وظف درويش صحفياً في نشرة الحزب الشيوعي الاسرائيلي: »كنا مضطرين للعودة الى حرب الفكر في الاسرائيليين حول شرعية الماضي وهويتنا بالتالي. حتى ذلك الوقت لم يكن اهتمام اسرائيل بثقافتنا بداعي التذوق أوالفضول الايجابي, لكن من أجل معرفة العدو, وكذلك الأمر بالنسبة لاهتمامنا إزاء اليهود كان يخضع لضرورات الصراع«.
أدرك محمود درويش أنه بكونه شاعراً هذا يعني أن يكون لشعره أثره على الواقع: »السياسة واجب في عالم يحتاج الى القيم والعدالة والكتابة هي جزء مأخوذ من هذه القيم, من مشكلات الشعب للبحث عن حل لبناء المستقبل«.
منظمة التحرير الفلسطينية قبلته على الفور وعينته عضواً في الهيئة التنفيذية, ووافق على ذلك خشية أن يجرح أبا عمار. قد يشكل ذلك المصيدة التي ستحجب أحياناً فن الشاعر خلف مهمة المقاومة.
يقول: »طالما كانت السياسة والشعر متداخلين عندي.. لست سياسياً, أنا أمارس السياسة من خلال الشعر«. وإن كان لم يأسف على التزامه, إلا أنه طالب بحرية كل شاعر »لترك السياسة« والاحتفاظ »بحرية جنونه«.
دون شك, هذا البعد الغني قوّى علاقة محمود درويش بقرائه, بُعداً تجاوز كل الأسباب, نجده في عبقرية الكتابة, في موهبة أحد أكبر الشعراء لكل زمان. ويلام أنه ألقى الظلال على أغلب أصوات الشعراء العرب. لكن هل كان ليكون آخر, حين لم يتوقف الشعر عن مغازلة الأساسيات فقد عرف أكثر من غيره كيف يستدعي مكنونات قلب الانسانية: الحب, الكرامة, الوطن, الأم...
في الوقت المناسب قبل أسبوعين من غيابه, كان محمود درويش قد زار أمه في فلسطين. المنفي الذي كان خير من غنى رائحة خبز أمه وقهوتها, استطاع أن يشعر بهما للمرة الأخيرة.
دفن في 13 آب بالقرب من قصر الثقافة في رام الله. قد تكون أكبر إساءة توجه لشاعر رفض دفنه في أرضه الأم.